رام الله | قبل ثلاثة عشر عاماً، عندما فكّر آرييل شارون بدخول المسجد الأقصى، كان الثمن انتفاضة فلسطينية انطلقت شراراتها من داخل الحرم القدسي؛ اليوم، وسط هذا المشهد العربي المترهل، أصبحت اقتحامات المستوطنين اليهود واقعاً يوميّاً يُراد فرضه على المدينة المقدسة، بمباركة من أعلى المراتب السياسية في الدولة العبرية، وتعبئة دينية تمثّلت في إصدار كبار الحاخامات فتاوى تحثّ اليهود على اقتحام المسجد. ووصل الأمر الى حدّ إقرار أعلى هيئة تشريعية في دولة الاحتلال، الكنيست الإسرائيلي، بحق «اليهود في التعبد بجبل الهيكل». تشريع الاحتلال يأتي بالتزامن مع دعوات إلى مسيرات يهودية مليونية الأسبوع المقبل، احتفالاً بما يعرف لديهم بـ«عيد العرش». إزاء كل ذلك، تقف القدس اليوم وحيدة في خندق المواجهة، بعد عزلها عن محيطها العربي سياسيّاً وإعلاميّاً، وعن محيطها الفلسطيني من خلال إقامة الحواجز ومنع أهالي الضفة من الوصول إليها، وحصر دخول المصلّين، داخل الخط الأخضر وخارجه، بسقف عمري معيّن يتغير صعوداً أو نزولاً حسب «المناخ الأمني».
في الوقت الذي لم تعد فيه الأخبار المتواترة عن الانتهاكات بحق المسجد الأقصى تستفز مشاعر الإنسان العربي. لا مبالغةَ في القول إن المدينة المقدسة تواجه اليوم أعتى الحملات التهويدية منذ احتلالها عام 1967.
وكانت لجنة الداخلية في الكنيست الإسرائيلي قد أقرت في جلسة صاخبة مساء أول من أمس السماح «للمصلين اليهود» بدخول «ساحات جبل الهيكل» بمناسبة «عيد العرش اليهودي»، الذي يبدأ في الثامن عشر من الشهر الجاري، ويستمر أسبوعاً.
وقالت رئيسة لجنة الداخلية في الكنيست، ميري ريغيف، على هامش الجلسة: إن «كل يهودي يمكنه أن يفعل ذلك وهو يحمل الكتاب الذي ورثه عن أبيه»، في إشارة إلى كتاب التوراة، مضيفةً إن «من يفعل لا يعدّ متطرفاً».
الحديث عن تقسيم المسجد الأقصى زمانياً، تمهيداً لتقسيمه بشكل كامل بين المسلمين واليهود، على غرار المسجد الإبراهيمي في الخليل، لم يعد يدور في إطار المخاوف أو التكهنات، ولا سيما أنه ورد بشكل صريح على لسان ريغيف في جلسة الكنيست، حيث هددت بأن يكون مصير المسجد الأقصى مشابهاً لمصير المسجد الإبراهيمي إذا استمر المسلمون في «الإخلال بالنظام»، متسائلةً: «لماذا لا يتخذ قرار واضح، أنه إذا لم يسمح المسلمون لليهود بالصعود إلى جبل الهيكل للصلاة دون إخلال بالنظام، فإننا سننتقل لتطبيق القرار الخاص بالحرم الإبراهيمي، أيام للمسلمين وأيام لليهود، وهكذا يتحقق الهدوء».
ويبدو أن إسرائيل تسعى بشكل حثيث للوصول الى تلك النتيجة، من خلال افتعال الأزمات واستفزاز أهالي القدس، مجنّدة أعتى متطرّفيها لذلك الغرض.
وجاءت الدعوات إلى مليونية يهوديّة في القدس في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، بالتزامن مع جلسة الكنيست، وبالتالي، لم تمكث تلك الدعوات طويلاً حتى حصلت على «الشرعية القانونية» من أعلى هيئة تشريعية في الدولة العبرية، فيما يدور الحديث في أروقة الكنيست عن مشروع قرار يسمح للمستوطنين اليهود بدخول المسجد الأقصى في كل الأوقات، ومن جميع الأبواب. وبعد إغلاق كل مداخل الضفة الغربية، والمعابر الحدودية، مطلع الأسبوع الجاري، تزامناً مع «يوم الغفران» في الدولة العبرية، يستعد الفلسطينيون في الأراضي المحتلة وخارجها لموجة جديدة من التشديدات الأمنية مع حلول عيد العرش نهاية الأسبوع الجاري، بدأت اليوم بإعلان إسرائيل إغلاق «معبر» كرم أبو سالم الحدودي مع قطاع غزة حتى انتهاء العيد اليهودي، فيما يخشى الفلسطينيون أن تشمل الإجراءات منع المصلين من دخول المسجد الأقصى، في مقابل فتح أبوابه للمستوطنين والمتطرفين اليهود ليمارسوا طقوسهم واحتفالاتهم بعيداً عن «تنغيصات» الفلسطينيين.
خشية الفلسطينيين تبدو مبررة، ولا سيما مع التصريحات التي أدلى بها رئيس صندوق تراث جبل الهيكل، يهودا جليك، في الكنيست، إذ طالب الحكومة الإسرائيلية «بأن يكون الدخول إلى جبل الهيكل في أعياد اليهود، لليهود فقط». هذا الأمر تجسّد، وإن بشكل مخفف، مطلع الأسبوع الجاري، حيث منعت قوات الاحتلال من تقلّ أعمارهم عن خمسين عاماً من المسلمين من دخول المسجد، أو حتى حارات البلدة القديمة المحيطة به، وذلك في ذكرى «يوم الغفران». في المقابل، كانت ساحات المسجد الأقصى مفتوحة أمام المستوطنين اليهود، وعند حائط البراق تحديداً، أدّوا طقوسهم الدينية بحرّية، وصلّوا من أجل «تطهير ذنوب العام الماضي»، «تغيير مصير العالم» في السنة المقبلة، كما تنصّ معتقداتهم عن «ثواب». كما تنصّ معتقداتهم عن "ثواب" هذا اليوم. المفارقة أن الطقوس، التي تشمل أيضاً وقف حركة السير، والعزوف عن كثير من نشاطات الحياة اليومية، فرضتها سلطات الاحتلال على سائر فلسطينيي المدينة المقدسة بمسلميها ومسيحييها، بعدما أغلقت الطرق، وقيّدت حركة الفلسطينيين داخل المدينة، فارضة "شللاً تجارياً واجتماعياً تاماً"، كما يقول صاحب أحد المحال التجارية في القدس.
إزاء ذلك، تتذرع إسرائيل بأن هذه الإجراءات الأمنية ضروريّة لحماية "حقوق اليهود في ممارسة العبادة"، "ومنعاً للمواجهات والصدامات" داخل المدينة المقدسة، لكن حقوق العبادة داخل "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" لا تشمل حق المسيحيين في الاحتفال "بسبت النور"، الذي سبق وأن قمعته تحت الذريعة نفسها: "منع المواجهات والصدامات"، وتحت الذريعة نفسها أيضاً، قمعت قبل حوالى أسبوعين دعوة الشيخ رائد صلاح المسلمين إلى النفير العام للصلاة في القدس، في الوقت الذي تشرعن فيه دعوات "المليونيات اليهودية" داخل القدس، دون أن يثير ذلك خشيتها من حدوث مواجهات.


تم تعديل هذا النص عن نسخته الورقيه بتاريخ | 18 أيلول 2013