كلما انتهى استحقاق خارجي بعدم إعلان رابح واضح وخاسر ظاهر، انعكس الأمر في لبنان بانطباعين غير معلنين وجود منتصرين اثنين ولا مهزوم واحداً. معادلة مهضومة في الرواية، لكن أسوأ ما فيها في السياسة أنها تعمق المأزق اللبناني وتزيده تأزيماً.
آخر المحطات التي خضعت لهذه النتيجة، قضية الضربة المفترضة من قبل واشنطن ضد دمشق. فمنذ اللحظات الأولى للحديث عنها، وبعد موقف أوباما وتطورات مجلس الأمن وقمة العشرين، وصولاً إلى مستجدات الساعات الأخيرة، كاد طرفا الصراع في بيروت يعلنان انتصاريهما غير الممكنين نظرياً والمستحيلين واقعياً. الفريق المناهض لواشنطن يعتبر اليوم أن معسكره حقق انتصارات كاسحة على مستويات المواجهة كلها: دولياً، انتهى عصر العالم الأحادي القطب بزعامة الأميركي، وبزغ من تحت رماد الغوطة عالم جديد متعدد الأقطاب. إقليمياً، صمد محور إيران العراق سوريا بيروت، وهو ما يكفي لبداية زعزعة أنظمة المحور المضاد. حتى إن توقعات باتت تخرج من الصدور بأن يكون بندر هو «حمد الثالث»، بمعنى أن يخرج من المشهد السعودي كما خرج «حمدا» قطر، على أن يليه أردوغان، وصولاً حتى إلى تكهنات بأن يدفع جون كيري ثمناً مماثلاً أميركياً. تماماً كما دفعه سلفه قبل 30 عاماً، ألكسندر هيغ، يوم زج إدارة رونالد ريغان في مواجهة لبنانية خاسرة سنة 1982. ولأن التصنيفات الاصطفافية باتت دارجة، تذهب هذه التكهنات إلى اعتبار سقوط كيري مع شركائه الإقليميين موازياً لسقوط هيغ يومها مع المثلث الإسرائيلي بيغن ـــ شارون ـــ إيتان! أما محلياً، فيرى الفريق الداعم للأسد أن مكاسبه على الأرض في سوريا ستتسارع، بما يرسم تسوية دولية للحرب هناك، بأرجحية روسية وقبول أميركي ...
المهم من هذه القراءة أن الفريق اللبناني المعني بها، يعتبر نفسه المنتصر حتى اللحظة في معركة «أزمة صواريخ كوبا السورية»، وبالتالي فلا بد لانتصاره من أن ينعكس في التطورات اللبنانية المقبلة: لا حكومة ضده، أو حتى لا حكومة إلا بشكل يراعيه، كذلك في كل المحطات المقبلة، رئاسياً وقانون انتخابات وملفات عالقة من النفط حتى التعيينات.
في المقابل، يبدو جلياً أن الفريق الآخر المناهض للأسد والداعي إلى ضربه وإسقاطه بأي وسيلة كانت وأي ثمن كان، يملك قراءة معاكسة بالكامل، مفادها أن أوباما استعاد زمام المبادرة دولياً، وأن إدارته أثبتت مجدداً أنها لا تزال شرطي العالم، وأنها ستستمر في لعب هذا الدور سنوات طويلة مقبلة، رغم كل الحسابات «البريكسية» المعلنة أو المكبوتة. أما إقليمياً، فيرى الفريق نفسه أن محور «ولاية الفقيه» بات معزولاً أولاً ومفككاً ثانياً، فضلاً عن المشاكل الداخلية الذاتية والموضوعية لكل من حلقاته، في طهران وبغداد ودمشق والضاحية. وبالتالي فالأسد بات ساقطاً ينتظر من يعلن سقوطه، تماماً كما اعتقد الفريق نفسه منذ عامين ونصف. وأن النظام السوري جثة تنتظر من يدفنها، فيما الفريق المنتصر نفسه يتهم النظام الميت ذاته بتحويل كل خصومه إلى جثث فعلية!
المهم لبنانياً، أن النتيجة المنطقية لدى هذا الفريق أنه بعد نكبة الغوطة، لا «مقاومة» في الأدبيات الدولتية. لا في الحكومة ولا في بيانها ولا في حسابات الرئاسة المقبلة ولا في قانون الانتخابات ولا في الحصص النيابية ولا في التعيينات. وهو ما تجسد فعلياً في الأسبوعين الماضيين محاولة تشكيل حكومة من دون الحكي مع أحد. حتى نبيه بري، اعتقدوا أن لا ضرورة لإعلامه ولا لزوم لإشراكه في فرمان التشكيل. يسمعه مباشرة على الهواء، حين يتلوه سهيل بوجي. حتى الأسماء الموزّرة لم تكن موضع تشاور مع أحزابها، بحيث يكتشف رئيس كل تشكيل سياسي من اختار ثنائي سليمان ـــ سلام توزيره من فريقه أو حتى من حزبه، علماً بأن الفكرة ولدت بداية من إلحاح رئيس الجمهورية، ومن إصراره على ملء الفراغ، وتستمر لديه هاجساً دائماً.
لكن الواضح أن هذا المسار النزاعي التصادمي تعطل عند أكثر من محطة. أبرزها في المختارة وفي المصيطبة. مع فارق أن وليد جنبلاط قادر على الاستمرار في السياسة والزعامة مهما كانت نتيجة هذا التعطيل. بينما يبدو تمام سلام في مأزق شبه قاتل. حتى اللحظة، لا يزال قادراً على عدم تلبية تمنيات سليمان والسنيورة. لكن إذا بلغ الأمر حد تحوّل تلك التمنيات الى إملاءات من قبل الرياض مباشرة، وخصوصاً بعد إعادة تفعيل حركة سفيرها في بيروت، عندها تصير الحالة السلامية في معادلة إما الانفجار وإما الانتحار. فتلبية الطلب السعودي بتشكيل حكومة من النوع المذكور تعني تلقائياً تفجير البلد. أما رفض التجاوب مع الطلب السعودي فيعني بالنسبة إلى واقع الزعامة السنية في لبنان، اليوم، التقاعد المبكر أو الاعتزال القسري.
وحده نجيب ميقاتي كان يمكن أن يُخرج نفسه من مأزق كهذا، على الطريقة الميقاتية، لو لم يختر خروجه الخاطئ وتأبيد المأزق.