القاهرة - في الوقت الذي لم تسفر فيه محاكمة رموز نظام مبارك سوى عن أحكام بالبراءة وأحكام مبدئية بالسجن بضع سنوات لا تتناسب مع فسادهم طوال ثلاثين عاما، وجد المصريون أنفسهم على موعد مع محاكمة رموز نظام جديدة؛ أمام المحكمة نفسها، التي لا تزال تحقق مع الرئيس المخلوع حسني مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي في قضية مقتل المتظاهرين، يمثل نظيره المعزول محمد مرسي ورموز جماعته محمد بديع (الصورة) وخيرت الشاطر وغيرهم في قضية مماثلة، وهو ما يثير تساؤلات بشأن مدى نزاهة القضاء المصري، خصوصاً في ظل التحقيقات التي تنشط وتخفت حسب المزاج السياسي المسيطر بخطوات المصالحة، التي تسعى الحكومة الحالية الى إبرامها مع الجماعة لتجنب ويلات العنف وتفادي عودة الإسلاميين الى أجواء التسعينيات.
ما أشبه اليوم بالبارحة! فقد تصدرت أخبار سجن واعتقال قيادات جماعة «الإخوان المسلمين» الصحف، لتؤكد أن تاريخ الجماعة مع النظام يعيد نفسه؛ فما بين تشرين الثاني 1954، حين بدأ النظام الناصري حملة اعتقالات واسعة لقيادات الجماعة على إثر محاولة اغتياله، وبين آب 2013، حيث بدأ النظام الحالي حملة اعتقالات شملت كافة قيادات الجماعة، يعيد التاريخ نفسه. بمجرد خروج المصريين في «30 يونيو» الى الميادين لإعلان رفضهم لحكم «الإخوان» ثم تفويضهم بعد ذلك للجيش بالتعامل مع أنصار الجماعة الرافضين لعزل مرسي، اعتبرت جميع سلطات الدولة، ومن بينها القضائية، أن هذا هو الضوء الأخضر لعودة الجماعة الى مصيرها التاريخي، فألقت الأجهزة الأمنية القبض عن ما يزيد على ألف قيادي واعتقلت ما يزيد على 9 آلاف من المؤيدين والأنصار، مستندة الى حالة الطوارئ التي فرضها الرئيس المؤقت عدلي منصور تارة، وإلى بلاغات سابقة تارة أخرى.
وهو ما فتح المجال للتشكيك في استغلال القضاء لخدمة النظام الجديد، خصوصاً أن كل الاعتقالات ذُكر أنها تمت بموجب قرار من النيابة العامة، في قضايا وقع أغلبها قبل «30 يونيو»، ولم يحرك النائب العام السابق طلعت عبدالله، الدعاوى القضائية التي كانت أمامه، ولم تُفتح التحقيقات فيها إلا بعد رحيل الإخوان عن الحكم.
غير أن معضلة تداخل السياسة والقانون تعود الى عهد مبارك، حيث كانت كل القضايا التي يتهم فيها رموز النظام السابق يتم حفظها، ولم تغادر أدراج النيابة العامة سوى بعد سقوط مبارك.
ويرى عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، ومدير المركز العربي لاستقلال القضاء، ناصر أمين، في حديث لـ«الأخبار» أن القضاء المصري ليس مستقلاً بالمعنى المتعارف عليه في تعريفات الأمم المتحدة لاستقلال القضاء، رغم أن هناك قضاة مستقلين فعلاً، مشيرا إلى أن هذه مشكلة كبيرة وتحد كبير يواجه الدولة المصرية حالياً، ولابد من إعادة تعريف استقلال القضاء وفقاً لمعايير حقوق الإنسان الدولية. وأوضح أنه «لا يوجد استقلال مالي وإداري للقضاة، وهناك أزمة في معايير اختيار القضاة، فضلاً عن انتشار المحسوبية».
وهو نفس ما ذهب إليه الحقوقي ومدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، جمال عيد، الذي رأى في حديث لـ«الأخبار»، أن مصر ليس فيها قضاء مستقل، بل قضاة مستقلون كثيرون، لكن «يتراجع عددهم بسبب انخراط العديد منهم بالسياسة».
في المقابل يدافع القضاة عن أنفسهم، ويؤكدون أنّهم يتمتعون بنزاهة كبيرة، وإن كانت هناك أخطاء يتم التعامل معها وفقا للقانون، ويرى المستشار زكريا شلش، الرئيس بمحكمة جنايات، في حديث لـ«الأخبار»، أن غالبية قضاة مصر عندما ينظرون في القضايا لا ينشغلون بأي طرف، ولا يهتمون إلا بالأوراق المقدمة أمامهم، ويسعون فقط لتنفيذ القانون، لافتا الى أن هناك أزمة كبيرة في التشكيك في نزاهة القضاء.
وأوضح أن «ما لا يعلمه الكثير أن هناك عنبراً في سجن طرة يسمى «عنبر القضاة»، غير أن القانون يلزم سرّية التحقيق مع القضاة كي لا يؤثر على سمعة القضاة بشكل عام»، مشيراً إلى أن إدارة التفتيش القضائي التابعة لوزارة العدل، تقوم بدورها بشكل مستمر في متابعة انحرافات بعض القضاة.
وعن إمكانية توصل الجماعة الى مصالحة مع النظام الحالي تستوجب خروج جميع قيادييها من السجن، قال شلش إن «هذا هو أمر سياسي قضاة التحقيق غير معنيين به»، لافتاً الى أن الدستور والقانون يمكّنا رئيس الجمهورية من إصدار قرار بالعفو عن العقوبة لأي سجين، ولكن لا يوجد أي نص قانوني يمنع القضاة من استكمال عملهم في قضية معينة، مضيفا أنه طالما بدأت التحقيقات فعلى النيابة أن تنجزها.
الحكومة، بدورها، تؤكد أن لا سبيل للمصالحة مع من تلوثت يده بدماء المصريين، وحسب وزير المصالحة والعدالة الانتقالية المستشار محمد أمين المهدي لـ«الأخبار»، فإن «دماء المصريين التي تسيل في الشوارع والميادين تجعل الجميع في حاجة الى مصالحة حقيقية تساهم في استقرار المجتمع، ولكن مفهوم المصالحة لا يعني على الإطلاق الإفلات من العقاب».