انتظرت العائلات سبعة أيام على أمل الدخول، سبعة أيام من الذل والجوع على الحدود اللبنانية السورية فتحت الباب واسعاً على أسئلة كثيرة قد يجد لها الساسة العرب ألف إجابة: الخوف من التوطين، الخوف من أن يفقد المجتمع اللبناني توازناته الطائفية، وكثير من الحجج الأخرى التي لا مبرر لها انسانيا على الأقل.
لم يخرج الفلسطيني من مخيمه الى لبنان بقصد التنعم بخيراته، ولا بقصد السهر بباراته، وليس هناك على الحدود فدائيٌ جديد يحمل بندقيته ليفتح جبهة جديدة على إسرائيل، هنا على الحدود أبٌ يحمل وثيقته المؤقتة الوحيدة للعبور بعيداً عن الموت، يمسك بيدي طفليه خوفاً من ضياعهما، يخاطب الضابط: «طيب ليش قرار المنع؟». الضابط المسؤول يجيب دون اهتمام: «هاي الأوامر نحن ما دخلنا».
تمر بضع ساعات يستطيع بعض الأشخاص الدخول. تسأل أحدهم: كيف دخلت؟ ألا يوجد قرار بالمنع والتهديد باتخاذ قرارات أكثر قسوة لمن لا يعود الى سوريا بأن يحرم عاما كاملاً من دخول الأراضي اللبنانية؟».
يجيب الشاب، الذي رفض ذكر اسمه خوفاً من مضايقته أثناء عودته الى سوريا: «يبدو الموضوع على مزاج الضابط المسؤول»، ثم يتابع ساخرا «دخلت أول مرة على الضابط وكانت ثيابي ووجهي متسخين بعد 21 ساعة من الانتظار. لم يعجب مظهري الضابط الموجود فطردني من المكتب وهددني بمنع سفر الى لبنان لمدة عام، بعد ساعة ذهبت الى الحمام ورتبت هندامي وشعري وعدت الى الضابط، خاصة أن هناك أكثر من شخص تمت الموافقة على دخولهم فقط لأجل مظهرهم الجميل. عندما دخلت قلت له: احترامي سيدي، وبدأت ارجوه ان يعطيني توقيع الموافقة على الدخول.
ووصل بي الأمر أن قلت له: أبوس إجرك يا سيدي الوالدة مريضة وأنا فايت أعالجها بس. عندها، وقع الضابط بعد توسلات كثيرة ودخلت».
عندما علمت الأونروا بالموضوع أرسلت مندوباً عنها للتفاوض مع الضابط المسؤول، خاصة بعد أن علمت أن مدير الأمن العام لا علم له بمثل هذا القرار، الذي اتضح انه متخذ بمبادرة ذاتية من الضابط المسؤول. هذا ما قيل أيضاً للصليب الأحمر الدولي عندما سألوا عن الموضوع. حضر مندوب الأونروا وفي حادثتين منفصلتين طرد من مكتب الضابط المسؤول! وبعد عدة اتصالات مع الجهات المعنية من قبل أكثر من منظمة دولية، وافق الضابط على السماح بإعطاء الفيزا بحضور مندوب الأونروا. هكذا، دخل عشرة أشخاص، لكن، ما أن رحل مندوب الأونروا حتى عاد «قرار المنع»، والمعاملة السيئة للعائلات الفلسطينية. تقول إحدى الأمهات: «في الليل أردنا الذهاب الى أماكن تحمينا وتحمي أطفالنا من البرد. لكنهم طردونا منها بحجة أن التواجد في هذه الأماكن ممنوع! تلحفنا ببعض على الرصيف الموجود في الطرف الثاني من المركز. أما في النهار فكنا نهرب من أشعة الشمس الحارقة وخاصة اننا كنا صائمين، هربنا الى فيء الواح الزينكو الموجودة بجانب المركز. أيضاً طردونا وهم يصرخون بنا: روحوا تحت الشمس، واحترقوا كمان شو يعني! ممنوع تقعدوا هون».
هذا ما رواه من التقيناهم، ولا نتحدث عن التقارير التي بثت على غير قناة إخبارية تظهر أحد عناصر الأمن شاهراً حزامه على العائلات الفلسطينية العالقة على الحدود هناك! ولم نذكر بعد السباب والشتائم من الزنار والنازل، والألفاظ النابية التي كنت تصدر عن بعض رجال الأمن هناك، والذين لا يمتون لا من قريب ولا من بعيد لأخلاق رجال الجيش والأمن اللبناني.
تمثل امرأة فلسطينية وزوجها اللبناني وطفلاهما. يسمح له وحده بالدخول مع طفليه وتمنع الأم فقط لأنها فلسطينية سورية! تعبر عن تظلمها أمام أحد رجال الأمن الذي ما أن بدأ يسمع كلامها حتى بدأ بسب وشتم كل الواقفين أمامه وغالبيتهم من النسوة «بعدوا من هون! شو هالمناظر الوسخة، ما بتستحوا على حالكم هيك لابسين»!.
الأردن ممنوع، تركيا ممنوع، ولبنان تتملكه فوبيا التوطين والحرب الأهلية، وتجربة الفصائل الفلسطينية على أراضيه، مصر ممنوعة ايضا. لم يكتف النظام هناك بالمنع، والمثال ما حدث من تعامل من قبل الأمن المصري مع السفينة التي كان على متنها أكثر من 80 عائلة، بين هؤلاء كان هناك 60 فلسطينيا تم التعامل معهم بطريقة مختلفة عن السوريين. اعتقل الامن المصري هؤلاء، وأعيد 26 منهم إلى سوريا يوم الاثنين 25 آب المنصرم. وعند دخول المرحلين إلى مطار دمشق الدولي قام أمن المطار باعتقالهم جميعا ومصادرة جوازاتهم، وذلك بعد أن سلم الأمن المصري جوازاتهم لأمن الطائرة التي أقلتهم وليس لهم!.
وبالأمس قام أمن المطار بإطلاق سراح الأطفال والصغار منهم، وأبقى على النساء والرجال دون معرفة مصيرهم. 25 رحّلوا الى لبنان يوم الثلاثاء ووصلوا دون أية مشاكل تذكر وتم الترحيل بناء على طلب المرحلين إلى لبنان.
في كل يوم منذ شهر تقريباً، تتوافد العائلات على الحدود اللبنانية ينتظرون هناك رحمة السماء بين حدودي بلدٍ واحد، وهجرة ثانية لا تؤرخ إلا غربة الأخ عن أخيه.
الشاب أيهم، العامل في الصحافة، يتحدث بسخرية: قدمت أنا وشاب اسمه سامر. قبل خروجنا نحو الحدود قلت لصديقي ما هي الشروط الجديدة للدخول الى الأراضي اللبنانية؟ فقال: بنطال نظيف، وتيشيرت أنيق، ويجب أن ترش برفان على جسمك، وشوية جل على شعرك». ثم يتابع حديثه «صديقي أصلع، بس في كم شعرة على رأسه، فقلت له: والله ما رح يدخلوك. صديقي سامر رفض كل الكلام وجاء بثيابه العفوية الرثّة، وعندما دخل الى الضابط المناوب هناك رفض إعطاءه فيزا الدخول». يقول الصحافي سامر: «أنا قادم لمدة أسبوع فقط وبالأساس عندي عمل عليّ إنجازه، يعني مش جاي أستقر، ولما رفض الضابط إعطائي الفيزا قلت له لماذا؟ هل هناك قرار بذلك؟. وبعد ملاسنة مع الضابط أعطاني منعاً لمدة عام من دخول الأراضي اللبنانية».




ما الذي يمكن أن يشكله الفلسطينيون من خطر، أو أزمات عندما يتجاوزون حدود المنافي التي يعيشون فيها الى منافي جديدة لا أكثر؟
لماذا يحق للجميع الهروب من الموت الدائر في سوريا إلا للفلسطيني الذي عليه أن يموت مع البيوت التي تهدم كل يوم بصواريخ الأرض ــ أرض، والغراد، وقصف الطيران؟!
قد تموت في أي مكان، يقول درويش، قد تموت على حدود مكانين، لماذا هاجرت؟. لماذا خرجتم من الوطن.