الوضع على «جبهة» الأردن الشمالية، هادئ. الحدود الأردنية ـــ السورية، تحوّلت «جبهة» بالمعنى السياسي والأمني والعملاني للكلمة. لكنها هادئة اليوم؛ لا أكثر مما كان بالأمس القريب: الاستعداد والمراقبة وتأمين التواصل السعودي مع الجماعات السورية المسلحة التابعة للرياض، ومعابر للرجال والسلاح. وكل ما عدا ذلك من «معلومات» وخطط وسيناريوهات التحشيد والتدخل البري والمشاركة في الحرب الخ مما يجري تداوله على نطاق واسع، ليس، حتى الآن، سوى تخطيطات افتراضية.
وإذا كان من غير المجدي استعراض تلك التخطيطات هنا، لكثرتها، وانعدام أي أساس لبعضها، فإن السيناريو القائل إن تدخلا بريا أردنيا أو من الأردن باتجاه سوريا، يترافق مع الهجمات الصاروخية الأميركية، ليس واردا. وتنقل مصادر إعلامية مقربة من دوائر القرار أن السلطات الأردنية خارج أي تنسيق مع الأميركيين أو سواهم، يتعلق بتلك الهجمات المحتملة، لا عسكريا ولا لوجستيا.
في المقابل، نستطيع القول إن الحرب السورية، تكاد تشتعل في الداخل الأردني، سياسيا وشعبيا.
أمس الجمعة، عاد العلم الأصفر الشهير ليخفق في قلب عمان، علم حزب الله رفقة العلمين الأردني والسوري، والهتاف في ميدان الجامع الحسيني: «يا الله يا الله. تعلّموا من حزب الله». حدثت مشادة مع بعض المعترضين، بينما استمرت المسيرة التي نظّمتها القوى اليسارية والقومية، تحت عنوان : «العدوان على سوريا عدوان على الأردن»، من بين فعاليات أخرى في المحافظات، تندد بالعدوان المحتمل على البلد التوأم.
علم حزب الله الذي خرج من شوارع عمان، بسبب العراق، عاد اليوم إليها بسبب سوريا، التي تحظى بدعم راسخ من قبل الاتجاهات اليسارية والقومية والوطنية الأردنية؛ فمنذ معركة القصير، بدأ الحزب يستعيد، أكثر فأكثر، شعبيته لدى جمهور الحركة الوطنية. وهو ما أفقد الناطق باسم التيار السلفي الجهادي، محمد الشلبي ( أبو سيّاف) صوابه؛ فهدد «بإراقة الدماء اذا جرى السماح للأحزاب مرة اخرى برفع علم حزب الله». والمفارقة أن أبا سياف طالب الحكومة والأجهزة الامنية بعدم السماح، مجددا، برفع راية حزب الله، بصفته عملا «يهدد السلم المجتمعي».
ويحظى الإرهابي أبو سياف، الذي أرسل المئات للمشاركة في أعمال الذبح على الهوية في سوريا، بحرية الحركة والإدلاء ببيانات وتصريحات صحافية. ولعلّ في مطالبته للسلطات ـــ التي يجب عليها اعتقاله وفقا للقانون ـــ قمع خصومه السياسيين، ما يشير إلى لغة تفاهم نشأت بين الجانبين.
إنها، على كل حال، نتيجة متوقعة للتحالف مع المملكة العربية السعودية، والتنسيق معها ضد سوريا؛ فالجماعات التي يحركها السعوديون في هذا البلد، هي جماعات تكفيرية إرهابية، مما وضع السلطات الأردنية في موقع لا تحسد عليه، من حيث الاصطفاف مع المنظمات التي لطالما قاتلتها عمان بضراوة.
تهديدات أبو سيّاف بإراقة دم اليساريين والقوميين والوطنيين، لا بد أنها تروق تماما التيارات المرتبطة بالأميركيين داخل الدولة، كما تروق، بالطبع، الإخوان المسلمين، وخصوصا جناحهم الحمساوي، الذي أظهر، منذ بداية الأحداث، الكراهية الأعنف تجاه دمشق وحزب الله.
لكن الإخوان، اليوم، في حالة ضعف وانكفاء، لمصلحة السلفية المقاتلة التي يزداد نفوذها وتتسع صفوفها، كما لم يحدث من قبل، بحيث يستطيع المراقب أن يتوقع حجم القنبلة الموقوتة التي ساهمت السلطات الأردنية في تكوينها من خلال تجاهل الشروع في تنمية المحافظات، وغض البصر عن النشاطات السياسية والدعوية للتكفيريين الإرهابيين، إرضاءً للسعودية وانطلاقا من الحاجة البراغماتية إليهم في سوريا. غض البصر عن أولئك الذين يمثلون التهديد الأبرز للأمن الوطني الأردني، جرى على مرحلتين؛ ففي المرحلة القطرية من إدارة الملف السوري، كان يستحب أن يذهب التكفيريون، غالبا فرادى أو في مجموعات صغيرة، للموت في الحريق السوري. وقد أثبتت التطورات أن التكفيري الذي يُقتل في ساحة «الجهاد ضد النصيرية والشيعة»، يعزز المشاعر الطائفية في بلده الأصلي، ويستولد عشرة إرهابيين بدلا من واحد. وفي المرحلة الثانية، السعودية، أصبح التكفيريون في الأردن، محل حماية سياسية إقليمية.
هذه واحدة من النتائج البالغة الخطورة والبعيدة المدى لسلوك سياسي قصير النظر، يمنح الأولوية لشروط اللحظة الراهنة على حساب الأمن الوطني، كما على حساب التوافقات السياسية الداخلية التي جرى نسجها منذ عام 2011، على أساس إدارة السياسة الداخلية والخارجية، وفق منظور الاجماع.
الاجماع الأردني ، اليوم، يتفكك على وقع التورط المتدرج في الحملة السعودية على سوريا. صحيح أن الجوانب العملانية من هذا التورّط لا تزال محدودة، لكن الاحتمالات الواقعية، كالتوقعات التي لا أساس لها، تملأ المخيال الجماعي للأردنيين، الذين يشعرون اليوم بالثقل المضاعف للمأساة السورية على حيواتهم وضمائرهم. ولذلك، قد يكون معظم ما تتناقله التقارير الصحافية حول حجم التورط الأردني في سوريا، مبالغاً فيه، لكن الأكيد أن ذلك التورط الغامض أشعل الحرب في الداخل.
في الأسبوع الماضي، ندد المحرر السياسي في اليوميتين الأردنيتين الأقدم ، التابعتين للحكومة، «الرأي» و«الدستور»، بما سماها الحملة الإعلامية ضد السياسة الأردنية في الصحافة اللبنانية، وهاجم الصحافيين الأردنيين «المأجورين» ! الذين يكتبون فيها، لكن الحملة الحقيقية تتمثل في عدد هائل من التقارير غير المنشورة والمعلومات والشائعات التي يتداولها الأردنيون فيما بينهم، وتحتشد بها صناديق البريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي. وبالنظر إلى أن كل ما يجري على الجبهة الشمالية للأردن، عملانيا وأمنيا وسياسيا، مغلف بالغموض والأسرار، فإن تلك «الحملة» تتوافر لها فرص النجاح في ظل تعمق هوة الثقة العامة.
وزير الإعلام، محمد المومني، طالب الصحافة والفضائيات بتوخي الدقة في تغطية الموقف الأردني من سوريا؛ يعني ذلك الاعتماد على المصادر الرسمية التي تكاد لا تقول شيئا. الأسوأ ذلك التناقض الصارخ بين التصريحات بين مسؤول وآخر، والخطاب الذي لا يكل من الحديث عن أولوية الحل السياسي للأزمة السورية، والمعلومات المتلاحقة عن التدخلات العملانية في الحرب السورية.
حتى الآن أطاحت هذه السياسة الغامضة فرص التفاهمات الوطنية حول جملة من الشؤون الداخلية، كما حول تجديد موقع ومكانة الدولة الأردنية، إقليميا ودوليا، وفق معيار أولوية المصالح الوطنية العليا. وإذا ما اتخذت تلك السياسة أبعادا تدخلية أوسع، فإن الأردن مقبل على تطورات بالغة الخطورة، سوف تهزّ استقراره. وقد أصبح الاستقرار، بحد ذاته، منذ ربيع 2011، انجازا ثمينا.