لعراق 2003 وليبيا 2011، ما زال أرشيف الذاكرة يعجّ بتفاصيل الاستعراض الكاذب الذي قادته إدارة الرئيس السابق جورج والكر بوش لغزو العراق وبمشاهد التمثيلية الغربية للتدخل العسكري في ليبيا. حتى الآن، يتكرر السيناريو ذاته في سوريا، وعملية تهيئة الرأي العام لضربة عسكرية باتت في مراحلها النهائية.
استعراض العراق
منذ هجمات 11 أيلول 2001 لم يغب العراق والحديث عن أسلحته البيولوجية عن خطابات الرئيس الاميركي جورج والكر بوش وبعض مسؤولي إدارته. الوثائق التي نشرها دونالد رامسفيلد لاحقاً تثبت بدء التخطيط لقلب نظام صدام حسين «من خلال نزاع حول امتلاكه أسلحة دمار شامل» في خطة طرحت بعد شهرين فقط من هجمات 11 أيلول 2001. أميركياً، صوّت الكونغرس في نهاية عام 2002 على السماح باستخدام القوة ضد العراق وإرسال الجيش الاميركي الى هناك. في خطاب حال الاتحاد في كانون الثاني عام 2003 أعلن جورج بوش «إننا نعلم أن العراق في أواخر التسعينيات كان لديه مختبرات أسلحة بيولوجية متحركة».
خطابات بوش لم تكن سوى تمهيد شفهي للاستعراض الكاذب الذي قام به وزير الخارجية الأميركي كولن باول في 5 شباط 2003 في جلسة لمجلس الامن. يومها، عرض باول صوراً ادعى أنها تُظهر مواقع لمختبرات الأسلحة البيولوجية والحركة المستمرة فيها ونقلها من مكان الى آخر داخل العراق (تبيّن لاحقاً أنها صور مزيّفة لمواقع غير موجودة). باول حمل أيضاً في تلك الجلسة عيّنة من مادة في أنبوب صغير قال إنها «مادة أنتراكس» التي أرسلت من العراق أيضاً لتهديد أمن الولايات المتحدة الاميركية. طبعاً، كان قد سبق الحديث عن تلك المادة في مجلس الأمن، وصول عدد من الطرود البريدية الى مكاتب حكومية في واشنطن قيل إنها تحتوي على مادة «الانتراكس» السامة.
وخلال تلك الفترة واكب التصعيد «الديبلوماسي» والرسمي حملة إعلامية ركّزت على «الخطر الداهم الذي تشكّله أسلحة الدمار الشامل على أمن الولايات المتحدة» وعلى «خطر صدام حسين على شعبه». صدّق جزء من الرأي العام الأميركي أن بلاده لديها واجب «الهي» للدفاع عن أمنها ضد أسلحة الدمار الشامل العراقية كما تتحمّل مسؤولية نبيلة في إنقاذ الشعب العراقي من طاغيته.
في هذا الوقت كان وفد من المراقبين الدوليين يعاين المواقع العراقية منذ أشهر، وفي بداية شهر آذار أصدروا تقريراً يقول إنه «لا دليل على وجود أي نشاط متعلق بمختبرات أسلحة كيميائية حتى الآن». لم يكن أحد ينتظر تقرير المراقبين، وقرار غزو العراق كان قد اتخذ في جلسة بين بوش ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في كانون الثاني عام 2003، كما أشارت الوثائق لاحقاً. طبعاً، لم تؤثر نتائج المفتشين برأي الإعلام الحاشد للحرب أيضاً أو بموقف الدول التي دعمت الولايات المتحدة وبريطانيا في قرارهما. عمّت التظاهرات المعارضة للحرب على العراق عواصم دول عدة لكن أيضاً لم يكن لها أي صدى في غرف القرار. التفّ بوش بخبث على القوانين الدولية وجمع تأييد عدد من الدول في حملته من أجل «حرية الشعب العراقي وخلاصه». استُكمل الاستعراض على مرأى من الشعوب الغربية والعربية ولم تستطع بعض الحكومات الكبرى فعل شيء غير الشجب والاستنكار. ثم كان غزو العراق.

التمثيلية الليبية
منذ بداية تحركات «الربيع العربي» في أواخر عام 2010، بدأت حركة ديبلوماسية واستخبارية فرنسية ــ بريطانية ــ أميركية في ليبيا. ومع انطلاق الاحتجاجات في مدينة بنغازي استعاد المسؤولون الغربيون وإعلامهم حملات «أبلسة الديكتاتور» نفسها التي استخدمت ضد صدام حسين قبل ستّ سنوات. فجأة، في شباط عام 2011 بدأت المطالبات بفرض منطقة حظر جوي على طرابلس ثم على ليبيا «لمنع معمر القذافي من ضرب شعبه». أصحاب الدعوة: الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون تلاهما الكونغرس الاميركي الذي أقرّ بالإجماع طلباً الى الأمم المتحدة بإقرار حظر جوي على ليبيا. الدعوات الغربية تلك واكبتها دعوات ليبية معارضة من المجلس الانتقالي وتأييد عربي من جامعة الدول العربية. وفي هذه الأثناء توجهت الأنظار الى البوارج الحربية الأميركية التي كانت ترابض قبالة الشواطئ الليبية والى الصور الآتية من بنغازي التي أظهرت مواطنين «خائفين يتجمعون في الساحة ويحملون الأعلام الفرنسية ويطالبون المجتمع الدولي التدخل سريعاً لإنقاذهم». ظلّت الكاميرات تنقل ما يجري في بنغازي على الهواء حتى صدر القرار 1973 في مجلس الامن تحت الفصل السابع بفرض حظر جوي على ليبيا. القرار تضمّن بنداً «يجيز استخدام كل الوسائل الضرورية لحماية المواطنين الليبيين والمناطق المأهولة في ليبيا». علا التصفيق في ساحة بنغازي ونُقل ذلك مباشرة على الهواء. أعلنت السلطات الليبية وقفاً لإطلاق النار، لكن طائرات دول «حلف شمالي الأطلسي» كانت قد أقلعت الى الأجواء الليبية. ثم كانت الحرب على ليبيا.

سيناريو سوريا
منذ آب عام 2012 حدد الرئيس الاميركي باراك أوباما استخدام النظام للأسلحة الكيميائية «خطاً أحمر» لتغيير مسار سياسته تجاه الأزمة السورية. بعد أقلّ من سنة، في آذار عام 2013، علت الصرخة سياسياً وإعلامياً حول استخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية في خان العسل في حلب. ومنذ أيام صعق الرأي العام العالمي بصور مجزرة الغوطة ريف دمشق، ووجهت أصابع الاتهام الغربي والعربي مجدداً الى نظام بشار الأسد باستخدام الأسلحة الكيميائية. أُرسل مفتّشون منذ أيام للتحقيق في هذا الشأن. لكن قبل أن يصدر أي تقرير عن المفتشين، صعّدت واشنطن وباريس ولندن تهديداتها بشنّ هجمات على مخازن الأسلحة الكيميائية وعلى المنشآت الحيوية والمطارات وكل ما يمكن أن يسمح للنظام السوري باستخدام تلك الأسلحة. الضغوط السياسية واكبها تهويل إعلامي ودعوات متناقضة: إحداها تدعم الهجمات العسكرية وتطالب بمزيد من التسليح وتدريب المقاتلين السوريين وأخرى تصرخ «لا للحرب مع سوريا».
... ثم كانت الحرب على سوريا؟
(الأخبار)