جوزف سماحة يكتب عن الحرب على العراق سوريا... في انتظار البرابرة
صدر بيان لـ «مثقفين عرب» من دون ان يثير الاهتمام اللازم. تلاقى هولاء من أقطار عدة (ومن تركيا) ومن مشارب ليبرالية وديموقراطية وقومية وماركسية، تلاقوا لقول رأي في القضية المطروحة بإلحاح هذه الأيام.

هذا نص البيان:
«ندعو الرأي العام العربي الى ممارسة الضغط من أجل تنحية صدام حسين والمقربين منه في العراق، وذلك تفادياً لحرب تهدد أهل المنطقة بكارثة، وفي مقدمهم الشعب العراقي. ان الاستقالة الفورية لصدام حسين، الذي كان حكمه خلال ثلاثة عقود كابوساً على العراق وعلى العالم العربي، هي الوسيلة الوحيدة لتفادي المزيد من العنف. كما ندعو الى نظام ديموقراطي في بغداد، والى نشر مراقبين لحقوق الإنسان من الأمم المتحدة ومن الجامعة العربية للإشراف على تحقيق انتقال سلمي للسلطة في العراق».
نضع جانباً الانتقال من «تنحية» الى «استقالة»، ونضع جانباً تعبير «أهل المنطقة»، ونضع جانباً مصطلح «الوسيلة الوحيدة»، ونضع جانبا فكرة مراقبي حقوق الإنسان من الجامعة العربية (!)، ونضع جانبا ترنيمة «الانتقال السلمي للسلطة» بفعل «التنحية» بعد ضغط أو الاستقالة (الطوعية؟)، نضع ذلك كله جانباً من أجل تقديم ملاحظات خلافية مع نص هذا البيان ووظيفته في السياق الراهن.
لا بد من القول ان الموقعين لا يدّعون تمثيل تيارات فكرية وسياسية وانهم وافقوا، باسمهم الشخصي على الارجح، على هذا البيان. ولكن ذلك لا يمنع القول ان الاتجاهات الغالبة في التيارات العربية الليبرالية، والديموقراطية والقومية، والماركسية، لا تكنّ إعجاباً كبيراً للنظام العراقي الحالي. نزيد على ذلك ان الاتجاهات الغالبة في التيار الإسلامي هي من هذا الرأي، لا بل ثمة بعثيون عديدون اختلفوا مع الرئيس صدام حسين وسلطته.
إن من يقول رأياً سلبياً في النظام العراقي الحالي لا يقول، في الواقع، أي جديد. غير أن المشكلة في البيان هي أن المشكلة الحالية، في ما يخص العراق، قد لا تكون، بالضبط، طبيعة النظام. إن المشكلة هي في الاندفاعة الأميركية نحو الحرب. وإذا كان من مشكلة في النظام العراقي فهي أنه أضعف من أن يستثير استنفاراً واسعاً يجعل حصول المشكلة الفعلية، أي الحرب، أشد صعوبة مما يبدو الآن.
يريد البيان لنفسه ان يكون خارج السياق الفعلي الملموس، الحقيقي، الراهن لقضية العراق. ولذا، فإنه تعمّد عدم الإشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية بالاسم، وتجنّب التعريف بسياسة الإدارة الحالية في العالم والمنطقة، وتهرّب من المحاولة الإلزامية للاقتراب من تحديد أهدافها في المنطقة وموقع الحرب على العراق من هذه الأهداف.
ويمكن الجزم ان البيان لو تطرّق الى ذلك لما كان صدر أصلاً او لما كان صدر بهذه التواقيع. فمن يتابع نتاجات عدد من الموقّعين يعرف انهم يملكون رأياً نقدياً جذرياً في توجهات واشنطن. ومن يدقّق في كتابات آخرين يدرك انهم يختلفون مع هذا النقد الجذري. ولقد كان الحل السهل هو «الهجمة» المشتركة على النظام العراقي حتى لو كان الثمن، دفعاً للانشقاق، الدعوة إلى خوض معركة خارج الحلبة التي تدور فوقها المعركة الفعلية.
أي إن بين الموقعين من ارتضى لنفسه هذا التناقض (إدوار سعيد مثلا)، في حين ان بينهم من بقي متماسكاً وأوقع الآخرين في فخه. ويقوم هذا الفخ على الترويج للأطروحة القائلة بأن الديموقراطية هي في فوهة البنادق الأميركية وأن واشنطن هي التي تحمل مشروعاً ثورياً لتغيير المنطقة بالمعنى الايجابي للكلمة. وإذا كان الأمر كذلك فمن الطبيعي ان يجد مثقفون مكانا لأنفسهم، إلى جانب كنعان مكية مثلاً، عبر القفر الى مصادرة المشروع الأميركي تحت وهم ان هذه المصادرة الواهمة تقطع الطريق على المصادرة الأميركية الفعلية للعراق و... المنطقة.
إن ما تريده الولايات المتحدة هو قيام سلطة موالية في بغداد. فليست الديموقراطية هي الهدف ولكنها، أيضا، ليست الكابوس، فواشنطن لا تمانع في سلطة موالية وديموقراطية، ولكنها كانت ستقوم بحرب لو ان السلطة ديموقراطية وإنما غير موالية. ولقد كانت هذه هي السياسة الأميركية على الدوام وهي كذلك، اليوم، وبقوة أكبر، في ظل الإدارة الحالية. ويمكن لتبيان ذلك استعراض معالم هذه السياسة في العالم كله بما في ذلك التمعّن في التوجهات شديدة اليمينية في ما يخص الاوضاع الداخلية في أميركا نفسها.
إن القضية، اليوم، هي قضية الحرب. تغيير النظام نحو الديموقراطية هو العنوان النبيل المعطى لهذا العدوان وذلك في تكرار سمج لكل ما رافق الحملات الكولونيالية بما فيها الصهيونية من ادعاءات تمدينية. أما نظرية «تغيير النظام» بمبادرة عربية او بتبرع من صدام، فهي الابنة الشرعية لعجز النظام العربي الرسمي عن توليد حالة اقليمية مانعة للحرب الأميركية. ونذهب الى أبعد فنقول ان ما هو معروف عن هذه النظرية الرسمية العربية يبدو أكثر واقعية وعقلانية مما تبرّع بالدعوة اليه «مثقفون عرب». لقد بدوا، للأسف، ساذجين وقريبي الشبه الى «المثقف» البريء كما يراه سياسي عربي مخضرم، ومجرَّب، و«واقعي»، ومتخلّ عن ابسط واجباته، وساع الى التكليف مع املاءات المركز الامبراطوري.
وإذا كانت القضية، اليوم، هي قضية الحرب، فإن الرد الوحيد عليها هو «دعوة الرأي العام العربي الى ممارسة الضغط على أنظمته من أجل ان تكون أكثرها فعالية في منع الحرب». وفي الإمكان خوض هذه المعركة من دون تدنيس براءة ما لا تريد ان تبدو متورطة في شبهة «الدفاع عن النظام». والخوف هو ان يكون الانسحاب من هذه المعركة دليلا على قدر عال من استبطان التلفيقات الأميركية التي تزداد جذريتها الديموقراطية حيال العرب بقدر ما تزداد جذريتها في إعادة انتاج وتدعيم نظام الهيمنة الأميركية (والإسرائيلية) على الشرق الأوسط. وبالإمكان عقد مقارنة تُظهر أن أعتى أعداء المطالب الوطنية والقومية العربية، في واشنطن، هم الأكثر راديكالية في ادّعاء التطلّب الديموقراطي.
الخوف من استبطان التلفيقات الأميركية واجب لأنه يضع «مثقفين عرباً» في تناقض مع المزاج العام للمثقفين في أوروبا مثلا، وفي الولايات المتحدة نفسها الى حد بعيد. هذه أمثلة غير حصرية. لقد أُلغي احتفال في البيت الأبيض بمناسبة يوم الشِّعر لأن شعراء أميركيين أصرّوا على إلقاء قصائد ضد الحرب. ووقّع أربعون حاملا لجائزة نوبل أميركيون على بيان ضد «الحرب الأحادية والوقائية» التي «تضر بأمن أميركا وموقعها في العالم». وسخر سينمائيون إسبان من حماسة رئيس وزرائهم للحرب. وتوافق الآلاف في بورتو الليغري على دعوة الرأي العام الى التحرك ضد العدوان. ويتبارى المثقفون الفرنسيون والبريطانيون والايطاليون والالمان في استعراض الحجج ضد هذه الحرب المعلنة. ولقد كان لافتاً أن مثقفين عرباً من نوع حازم صاغية وصالح بشير وحسن منيمنة كتبوا مقالاً حاولوا فيه الجمع بين الموقف ضد الحرب على العراق والموقف ضد الحرب على المعارضة العراقية. وكانوا يساجلون، ضمناً، في الشق الثاني من مقالهم، مع ادوار سعيد الذي انتقد بقسوة محقة كنعان مكية قبل أن يوقع على بيان كان في وسع كنعان مكية أن يوقّع عليه.
لقد التقط مثقفون في العالم اللحظة بصفتها لحظة حرب، واعتبروا ان من واجبهم منع حصولها. ولم يخشوا تهمة التواطؤ مع أي ديكتاتورية مؤكدين ان دورهم هذا يدعم «الوسيلة الوحيدة لتفادي المزيد من العنف». غير ان مثقفين عرباً خجلوا من شبهة ان يكون نظام بعينه هو موضوع التضامن مع العرب فدفعهم الخجل، مقرونا برغبة في التطهّر، الى اقتراح تخلّي الرأي العام العربي عن دوره (فوق ما هو متخل) من أجل انتداب نفسه لوضع العربة أمام الحصان. ومتى؟ في عز التحضير لمواجهة تناقض أهدافها الفعلية المبادئ المرفوع لواؤها.
ويكاد البيان المشار اليه ان يكون برغيا في آلة التحضير لهذه المواجهة. أليس البيان رقم 2، في حال رفض صدام التنحّي او الاستقالة، هو تبرئة الولايات المتحدة مما كانت تعدّ له اصلا؟ ألم يكن ممكنا الجمع بين دقة الموقف (منع الحرب هي المهمة الأولى) وبين صحة التحليل (طبيعة النظام)؟ هل كُتب علينا ان تكون سياستنا بلا أخلاق وثقافة، وأخلاقنا وثقافتنا بلا سياسة؟
(«السفير» 4 شباط 2003)