برلين | كانت السياسة الأوروبية والغربية عموماً تجاه المنطقة العربية تقوم على مبدأ تفضيل الاستقرار على الحرية والديموقراطية، لذا كان الغرب متردداً في الوقوف بشكل مبكر إلى جانب الثورات العربية في مصر وتونس في بداية «الربيع العربي». فقد كان نظاما حسني مبارك وزين العابدين بن علي، رغم بعدهما عن الديموقراطية يتمتعان بأفضل العلاقات مع الغرب لأنهما كانا يشكلان ضمانة للاستقرار في المنطقة. ولا تزال أوروبا حتى اليوم تتبنى سياسة تقديم الاستقرار على الديموقراطية والحرية بدليل وقوفها إلى جانب بعض الأنظمة الشمولية في المنطقة، حيث لا حريات ولا ديموقراطية ولا دستور.
لذا يمر الاتحاد الأوروبي حالياً في حالة من الإرباك في التعاطي مع الملف المصري تصل إلى حدود عجز الاتحاد ودوله الأعضاء عن اتخاذ قرار مؤثر في الأحداث.
وتعود أسباب هذا الإرباك إلى عوامل عديدة ومحاذير لم تستطع دول الاتحاد تجاوزها أو إيجاد حلول لها.
فالاتحاد الأوروبي أيد على مضض بداية وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، وكان في ذلك يُظهِر احترامه لإرادة الشعب المصري بانتخاب من يمثله، وأيضاً تأكيد وقوفه إلى جانب قيم الديموقراطية التي لطالما تغنى بها.
وبعد خروج الملايين في مصر ضد حكم الإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي، كان الاتحاد الأوروبي راضياً أو أقلّه غير معترض على قيام الجيش بعزل مرسي، قبل سقوط مئات الضحايا في المواجهات وشعور الاتحاد الأوروبي بعدم القدرة على التغاضي عن أحداث العنف الدامية على الضفة الجنوبية للمتوسط، وتحديداً في مصر التي تعتبرها أوروبا والغرب صمام أمان في المنطقة. ولكن الاتحاد الأوروبي الذي فشل في جهود الوساطة بين الطرفين قبل المواجهات الأخيرة، يجد مهمته أكثر صعوبة الآن، فهو قد فقد ثقة كافة الأطراف في مصر.
في هذا الإطار يقول الباحث في المؤسسة الألمانية للسياسة الخارجية، جوزيف يانينغ، «إن الإخوان المسلمين أصيبوا بخيبة أمل لأن الاتحاد الأوروبي لم يصل إلى حد تسمية عزل الرئيس مرسي بالانقلاب العسكري ولم يمارس الضغط المطلوب، أما الحكومة الحالية والجيش بشكل خاص، فيريان أن الاتحاد يبالغ في انتقاداته للسلطة القائمة ويتخذ قرارات متعلقة بوقف تصدير الأسلحة وتجميد المساعدات وما شابه، في الوقت الذي تقوم فيه الحكومة الانتقالية والجيش بمكافحة الإرهاب والعنف. ومن جهتهم، يرى الشباب المتظاهرون أن الاتحاد الأوروبي يخيّب آمالهم أيضاً لأنه يتخلى عنهم كلما تتعقد الأمور في مصر».
وبغض النظر عن فقدانه لثقة المصريين، فالاتحاد الأوروبي عاجز فعلاً عن ممارسة المزيد من الضغط على السلطة القائمة، فالعقوبات الاقتصادية تَبخَّر مفعولها قبل اتخاذ القرار يوم الأربعاء الماضي، إذ إن السعودية والإمارات والكويت أعلنت وقوفها إلى جانب مصر وتعويضها أية مبالغ قد تفقدها جراء عقوبات أو تجميد مساعدات من أوروبا أو أميركا. وقد أبلغ وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل، نظراءه الأوروبيين بذلك بكل وضوح.
ثم إن فرض عقوبات اقتصادية أو سياسية أكبر على السلطة القائمة في مصر تعني الضغط على الجيش المصري، الأمر الذي قد تكون له تداعيات أخرى. فالجيش المصري هو مؤسسة اقتصادية قائمة بذاتها وتحظى بتأييد غالبية الشعب بسبب فرص العمل التي توفرها للعديد من الأفراد والشركات العاملة على تأمين احتياجات الجيش اللوجستية والغذائية إلخ، حيث يوظف هذا القطاع والشركات العاملة على جوانبه ثاني أكبر نسبة من اليد العاملة في البلاد بعد قطاع السياحة المنكوب حالياً.
يُضاف إلى ذلك أن أوروبا لا تستطيع المغامرة بما بقي من علاقات مع الجيش الذي يُعتَبر الحامي الحقيقي لاتفاقية كمب ديفيد للسلام مع إسرائيل، وهذه الاتفاقية هي شرط أساسي لاعتراف أو قبول الاتحاد الأوروبي بأي جهة تتولى السلطة في مصر.
وبعيداً عن ذلك، تبدو أوروبا غير راغبة فعلاً في ممارسة ضغط كبير على الحكومة المصرية، بل إن تجميد بعض اتفاقيات التعاون ووقف دفع بعض المساعدات الى مصر يصبّ في إطار الاستجابة للحملة الإعلامية الشرسة في أوروبا ضد تقديم المزيد من أموال دافعي الضرائب على شكل مساعدات الى مصر وغيرها، في الوقت الذي تعاني فيه دول الاتحاد الأوروبي ما تعانيه اقتصاديا.
وركزت الحملة الإعلامية على الوعود التي قدّمها رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي هيرمان فون رومبوي، بتقديم مساعدات إضافية الى مصر بقيمة خمسة مليارات يورو، على الرغم من أن حكومة الرئيس المعزول محمد مرسي، أنفقت مليار دولار من المساعدات الأوروبية رافضة الافصاح عن كيفية إنفاق هذا المبلغ.
ويتجلى العجز الأوروبي أيضاً في قضية المسيحيين الأقباط، فأوروبا لا تستطيع السكوت عن الهجمات التي شُنّت على المسيحيين في مصر، لا سيما في الأيام والأسابيع الماضية، ما أودى بحياة أعداد منهم وإحراق أكثر من ستين كنيسة خلال خمسة أيام فقط. لكنها لا تريد أيضاً القيام بما قد يسيء لوضع المسيحيين في مصر والمنطقة عموماً.
لذا تحدّث وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي عن حماية كل المواطنين المصريين، في إشارة الى المسيحيين من دون تسميتهم، لكي لا يخسر الاتحاد المزيد من ثقة الإخوان المسلمين أو يستفزهم، في حال ظهر كحامٍ للمسيحيين في الشرق، خصوصاً أن الاتحاد لا يزال يدعم جماعة الاخوان المسلمين في حربها ضد النظام في سوريا.
لذا تقف أوروبا حائرة بين مخاوفها من خسارة موقعها ومصالحها في مصر وتعريض اتفاقية كمب ديفيد للخطر من جهة، ومن جهة أخرى تخشى أن تفسد علاقاتها بالجماعة الممسكة بالسلطة في عدد من دول الربيع العربي الأخرى.
وتخاف أيضاً من أحداث عنف ضد المسيحيين قد تؤدي الى موجات هجرة جديدة نحو دول الاتحاد، يُضاف إلى ذلك أزمة الاتحاد الاقتصادية. وحول هذا الواقع يقول مصدر في وزارة الخارجية الألمانية «إن أقصى ما يمكن لأوروبا القيام به هو توجيه إشارة سياسية قوية الى القاهرة من جهة وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة معها»، من دون ان يوضح المصدر كيف يمكن لأوروبا ان تقوم بذلك.