رام الله | في الوقت الذي كانت تجري فيه الاستعدادات لعقد اجتماع تفاوضي بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في أريحا أمس، كانت ثمّة مجزرة ترتكب في مخيم قلنديا، الذي يتوسط المسافة بين رام الله والقدس المحتلة، ويمثّل قاعدةً شعبية للمواجهات التي لم تنطفئ جمرتها منذ الانتفاضة الثانية على حاجز قلنديا القريب، ما جعل صباحات المخيم الذي لا يمل من مشاكسة الاحتلال موعداً مفضّلاً لاقتحاماته واستفزازاته الدورية. لكن صباح قلنديا المندّى بالدم والبارود اليوم كان استثنائياً. لم يسقط شهداء وجرحى بهذا الكمّ في المخيم منذ انتفاضة الأقصى، كما لم يلجأ الاحتلال إلى هذا الكم من القوة القاتلة في مواجهة مباشرة في الضفة منذ سنوات. ضحايا مجزرة قلنديا أمس، كلهم من الشباب. الشهداء منهم ثلاثة، اثنان منهم أسرى محرّرون، ولكلّ منهم حكاية تحيل على معاناة الحياة اليومية في المخيم.
عند السادسة فجراً، أفاق أهالي المخيم على صوت إطلاق نار كثيف لم يعهدوه من قبل، «شعرنا كأن حرباً ما قامت داخل أزقة مخيم ضيق ولم نستبن الأمر»، يقول أحد أهالي المخيم. في وقت لاحق، تبيّن أن الهدف من الاقتحام هو الأسير المحرر يوسف الخطيب، ذو الثلاثة والعشرين ربيعاً، لكن القوات الخاصة المكلفة بالمهمة لم تجد أمامها «هدفاً سهلاً» هذه المرة.
يقول عيسى حماد، أحد أبناء المخيم، لـ«الأخبار»، إن «القوة التي اقتحمت المخيم كانت من المستعربين. جاؤوا بزي مدني واقتحموا بيت يوسف الخطيب، وعندما تبين له أنه هو المستهدف، أفلت من يد القوة التي اقتحمت المنزل، وهرب إلى البيت المجاور، حيث تمكنوا من اعتقاله». يضيف: «هكذا أثارت الوحدة الخاصة أهالي المنطقة، فحاصروهم قبل أن تتدخل وحدات الجيش. وبعدما تواردت الأخبار عن فقدان أحد عناصر الوحدة المكلفة بالاقتحام، فدخلت آليات عسكرية من كل الأنواع، وبدأوا بإطلاق الرصاص الحي والدمدم المتفجر في كل اتجاه، وعلى أبواب المخيم كانت الجرافات العسكرية تمهد للجنود طريق الخروج».
يروي حماد تفاصيل عمليه اعتقال يوسف الخطيب، نقلاً عن شقيقه عمر الخطيب، يقول: «عندما تم إلقاء القبض على يوسف، أخذوا إليه شقيقه عمر ليتأكدوا من خلاله أنهم حصلوا على الشخص المطلوب. للوهلة الأولى لم يتعرف عمر إلى وجه أخيه الذي كانت تغطيه الدماء، ثم سرعان ما تأكد حينما طلبوا منه التعرف إلى أخيه، فردّ الأخير بإيماءة من عينه ألا يفعل ذلك، فأخبرهم بأنه لا يعرفه. عندها انقضّ عليه الجنود بالضرب، وأجبروه على المشي معهم حتى حاجز قلنديا، حينها اعتذر إليه الضابط لأنهم تركوه يمشي حافياً كلّ هذه المسافة، ثم أطلق سراحه».
وسط هذه الأحداث، كان روبين زايد، 34 عاماً، يهمّ بالذهاب إلى عمله في وكالة الغوث على حدود المخيم. ترك لأطفاله الصغار مصروفهم اليومي فوق المنضدة، ووعدهم بأن يعود إليهم بالقرطاسية التي سيستعدون بها لعامهم الدراسي الجديد بعد أيام. لكن شوق الأولاد إلى رؤية والدهم في المساء محمّلاً بالهدايا والقرطاسية سيمتد إلى الأبد هذه المرة.
يقول إسلام زايد، أحد أقرباء الشهيد، لـ«الأخبار»: «لم يتدخل روبين في المواجهات مع الاحتلال. كان متوجّهاً إلى دوامه اليومي، وفي الطريق أطل جندي من وراء المصفحة وأطلق رصاصة في صدره». روبين هو أحد الأسرى المحررين، «كان يعيش حياته بشكل عادي بين عمله وبيته»، يقول زايد، ويتابع: «كانت نيتهم القتل، كل الإصابات كانت في أجزاء مميتة من الجسم، وكل الجرحى في حالة خطرة، منهم من تعرّض لإعاقات بعد الإصابة».
يونس جحجوح (23 عاماً)، شهيد المخيم الثاني، هو أيضاً أسير محرر، أُطلق سراحه في صفقة «وفاء الأحرار» قبل عامين، لكن فرحة أهله بعودته لم تدم طويلاً. خرج يونس من السجن وقرّر أن يأخذ «استراحة محارب»، وبدأ بالتخطيط لبناء مستقبله. دخل الجامعة طالباً في كلية الصحافة. يقول صديقه عيسى حماد «كان يجلس بجوار بيته ويراقب الأحداث عن بعد عندما باغتته الرصاصة».
أما جهاد أصلان (19 عاماً)، أصغر الشهداء، فقد كان معيل الأسرة الوحيد بعد وفاة والده. لديه «عربة خضار» صغيرة يعتاش منها هو وعائلته، ويوفر قسطاً آخر للزواج وإعمار بيت المستقبل، حيث قضى قبل أن يتم بناءه.
الجانب الإسرائيلي تنكّر للجريمة، حيث قالت المتحدثة باسم جيش الاحتلال، لوبا السمري، إنه: «لا علم لديهم بسقوط قتلى»، وإنهم «استخدموا وسائل مكافحة الشغب». لكن إسلام يجزم بأن الهدف الأساسي من العملية هو استفزاز المخيم، يقول: «لو كانوا يريدون الاعتقال، فبإمكانهم اعتقال من يريدون في أي لحظة. حواجزهم منتشرة في كل مكان، وأقربها لا يبعد عنا سوى دقائق. كانت لديهم نية مبيتة بالقتل، لم يستخدموا قنابل الصوت والغاز، بل باشروا إطلاق الرصاص الحي والمتفجر».
في المقابل، أدانت الرئاسة الفلسطينية «اغتيال فلسطينيين في قلنديا». ورأى المتحدث باسمها، نبيل أبو ردينة: « أن سلسلة الجرائم الإسرائيلية واستمرار عطاءات الاستيطان تمثلان رسالة واضحة لحقيقة النيات الإسرائيلية تجاه عملية السلام، وأن ردود فعل سلبية ستكون لهذه الأفعال»، في الوقت الذي طالب فيه المتحدث باسم الحكومة الفلسطينية، إيهاب بسيسو، بتأليف لجنة دولية «للتحقيق في الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الاسرائيلي».
الموقف نفسه صدر عن وزير الخارجية المصري، نبيل فهمي، الذي يزور الأراضي الفلسطينية، حيث رأى أن «استمرار مثل هذه الممارسات، سواء أكانت في استمرار العنف أم في التوسع الاستيطاني، من شأنه أن يقلل من فرص نجاح المفاوضات».
وكان مصدر مسؤول في السلطة الفلسطينية قد أعلن أن «القيادة الفلسطينية ألغت جلسة المفاوضات المقرر انعقادها في أريحا» رداً على ما حدث في قلنديا، في حين نفت وزارة الخارجية الأميركية، في وقت لاحق، أن تكون محادثات السلام التي تتوسط فيها الولايات المتحدة قد ألغيت. وقالت متحدثة إن «الأطراف تشارك في مفاوضات جادة ومتواصلة.»، فيما قال عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، حنا عميرة، إن «الصحافة الإسرائيلية تؤكد عقد لقاء تفاوضي في القدس هذا اليوم».