«جنا أحمد حسن»، الطفلة الرضيعة التي لم تتجاوز بعد الثلاثة أشهر، يقتلها الحصار المفروض على مخيمات المنطقة الجنوبية من دمشق منذ أكثر من شهر. خرجت الأم من مخيم اليرموك لتجلب للأسرة القليل من الخبز وبعض الخُضَر في حدود ما يسمح به حاجز الأمن السوري المرابط عند بوابة المخيم.
لم تتوقع الأم أنّ الحاجز سيمنع دخول الناس إلى المخيم في هذا اليوم، وبالتالي لن تتمكن من العودة إلى رضيعتها.
تحاول الدخول، لكن جميع توسلاتها لا تنجح. الأم تخاطب الشاب الواقف على الحاجز: «من شان الله يا ابني، عندي طفلة رضيعة جوات المخيم». رجل الأمن ينهال عليها بالشتائم: «إنتي أم إنتي؟ (يقول لها) لو بتفهمي وكنتي إم، ما طلعتي من المخيم وخليتيها بالبيت». الأم تتوسله، تتوسل كل الشباب الواقفين على الحاجز «منشان الله يا شباب، كيف بدي أجيبها معي تحت القنص والقصف والاشتباكات؟». يبدو أنها أزعجت أحد شباب الأمن، فيصرخ عليها ويحاول إبعادها من أمام الحاجز.
أبو جنا يحاول أن يخرج الرضيعة إلى أمها، لكن بعد أن فشلت جميع محاولاته لإخراج الطفلة إلى أمها، يبدأ البحث عن حليب للأطفال، إلا أن جميع محاولاته باءت مجدداً بالفشل. الجميع كان يجيبه بأنّ المخيم، لا بل كل المنطقة الجنوبية من دمشق خالية من علبة حليب واحدة. يزداد بكاء «جنا» ويزداد خوف الأب، يحملها إلى كل نساء الحي اللواتي حاولن كل ما يستطعن من حيل لإطعامها (زهورات – ميرمية – يانسون... إلخ). يهدأ بكاء الطفلة قليلاً، ثم يعود للانفجار. يبحث الأب عن مرضعة، وتبحث الطفلة عن رائحة صدر والدتها، فلا تجده، فتمتنع عن حليب المرضعة الأولى، تأتي مرضعة ثانية وثالثة، لكن الطفلة الرضيعة لا تأبه للحليب بقدر ما تأبه لرائحة صدر والدتها. ثلاثة أيام تمر و«جنا» في بكاءٍ مستمر. الأب كالمجنون يركض في شوارع المخيم، يصرخ بالناس: «من شان الله يا جماعة روحها عم تطلع».
منذ شهر رفع أهالي مخيم اليرموك وأهالي مخيم سبينه والسيدة زينب رسالة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وإلى وكالة الأونروا المسؤولة عن المخيمات هناك، يطالبون فيها برفع الحصار عن مخيماتهم، ويقولون فيها إنه إذا كانت الأونروا لا تستطيع تحمل مسؤولياتها تجاه المخيمات، فعلى القيادة الفلسطينية والأونروا تحويل ملف المخيمات هذا إلى هيئة الأمم المتحدة، لتصبح تحت حماية المجتمع الدولي. كذلك، ناشد أهالي اليرموك وسبينة والسيدة زينب المجتمع الدولي ضرورة التحرك الفوري وإدخال كوادر من الصليب الأحمر الدولي لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين، ونبهوا في رسالتهم إلى أن الوضع الإنساني أصبح خطيراً جداً؛ فقد تدخل المخيمات المحاصرة حالة مجاعة رسمية، وخاصة أن هناك شبه انعدام لدخول المواد الغذائية إلى هذه المخيمات نتيجة منع النظام السوري الناس من الخروج أو الدخول إليها.
مرّ شهر تقريباً على هذه الرسالة، إلا أن أحداً لم يتحرك، والجميع في موقف العاجز. وبدل أن تتحرك الجهات المسؤولة لرفع الحصار الذي كان منذ شهر حصاراً جزئياً، أصبح الحصار كلياً على أكثر من نصف مليون مدني يعيشون في المنطقة الجنوبية، منهم عشرات الآلاف في مخيم اليرموك. أما مخيم سبينة، فيبدو أن مخطط تهجير الفلسطينيين قد نجح هناك، حيث لم يعد بمقدور الناس هناك التحمل، فخرجوا من مخيمهم ليصبح مخيم أشباح.
يكتب الأستاذ أبو سلمى على صفحته قبل يوم من الاعتصام الذي قرر شباب المخيم القيام به أمام مقر الأونروا في المخيم: «لولا عزة النفس لأعلنّا المخيم منطقة خالية من الطعام».
يوم 16من الشهر الجاري اعتصم أهالي اليرموك أمام مقر الأونروا في شارع المدارس وأحرقوا علم الأونروا ووضعوا القماش الأسود على البناء. ومع تفاقم حالة الجوع وانعدام المواد الغذائية و... الطبية، انتشرت ظاهرة قيام الأهالي بفتح المنازل المغلقة للنازحين عن المخيم بحثاً عن بقايا طعام، أو أدوية ومحروقات. إلى جانب ذلك، بدأ نقاش حقيقي في ضرورة إصدار فتوى تحلل أكل القطط والكلاب والفئران والجرذان، مع العلم أن هناك محاولات فعلية لصيد هذه الحيوانات في هذه الأيام والاحتفاظ بها من دون انتظار الفتاوى!
يقول أبو مجاهد، أحد الصامدين في المخيم: تعود بي الذاكرة إلى الوراء عندما كنّا محاصرين في بيروت، وكيف أننا في ذلك الوقت اضطررنا في بعض الأيام إلى أن نأكل حتى الطعام الفاسد. صمدنا في تلك الفترة؛ لأننا كنّا نعلم من هو عدونا. اليوم من هو العدو؟ العدو أخ يقتلنا تحت حجة وجود مسلحين في المخيمات وخاصة اليرموك، ومن الجهة الأخرى، أخ آخر في المناطق المجاورة لنا التي تقع تحت سيطرة الجيش الحر، لا تعطينا عندما يأتيها بعض الطحين أو بعض المواد الغذائية؛ فهي توزع فقط على أهالي هذه المناطق. نحن في النهاية بين حصارين للأسف.
مخيمات دمشق، باستثناء مخيم جرمانه، تدخل أسبوعها الرابع تحت حصارٍ قاتل، يمنع عنها أبسط حقوق الإنسان (الطعام و الدواء) و فصائل الثورة الفلسطينية تستمر برفع شعار «الحياد»، رغم أن الأحداث في سوريا تأخذ منحى الحرب الأهلية والتطهير المذهبي، والسياسي منذ وقت. لقد أصبح الحياد سيفاً يُصلَت على رقاب أهلنا المحاصرين في المخيمات. إنه خضوع وعجز يعكس الأزمة الحقيقية التي تعيشها فصائل الثورة الفلسطينية في قدرتها على حماية شعبنا الفلسطيني.



تدخل مخيمات دمشق، باستثناء مخيم جرمانه، أسبوعها الرابع تحت حصارٍ محكم يمنع عنها التمتع بأبسط حقوق الإنسان، نقصد الحصول على الطعام والدواء، في حين تستمر فصائل الثورة الفلسطينية برفع شعار» الحياد» رغم أن الأحداث في سوريا تأخذ منحى الحرب الأهلية والتطهير المذهبي والسياسي منذ وقت لا بأس به. هكذا، يعتبر معظم الفلسطينيين ان الحياد الفصائليهو في الحقيقة سيف يسلط على رقابهم ويترجم في الحقيقة، وحسب رأي هؤلاء، خضوعا وعجزا يعكس الأزمة الحقيقية التي تعيشها فصائل الثورة الفلسطينية في قدرتها على حماية شعبها.