دمشق - تحوّل الجامع العمري في قدسيّا البلد إلى مأوى للمهجّرين السوريين والفلسطينيين، بعد أن كان أشهر الأمكنة التي خرجت منها تظاهرات منذ سنتين. اليوم تستوعب هذه المدينة أكثر من نصف مليون شخص بين نازحين وسكان أصليين.
شهدت قدسيّا، التي تتبع جغرافياً للغوطة الغربية، أعنف المواجهات المسلحة بين القوات السورية و«الجيش الحر»، لكن الضربة القاضية التي وجهها الجيش السوري للمنطقة المتمردة كانت كفيلة «بفرار المسلحين قبل المدنيين»، كما يقول البعض. في ما بعد توازنت الحياة الاجتماعية وبقي المسلحون داخل المدينة تحت شرط تسوية توقف إطلاق النار، ليعود الناس إلى بيوتهم، وتبقى الدولة على حصارها للمنطقة عبر الأحياء «الموالية» مثل حي الورود ومساكن الحرس، التي تقع على مرتفعات جبلية تتيح لها رؤية عسكرية واسعة لكل المناطق المعارضة في قدسيا.
عند جمعية الفيحاء وما بعدها تظهر سيطرة المعارضة المسلحة على نحو واضح، لكن الرادع الداخلي الأبرز هناك هو جعل نازحي الجولان (1968)، القاطنين في منطقة الجادات وسط قدسيّا، يشكلون لجان «مصالحة وطنية» تشترك مع لجان شعبية مسلحة أسوةً بالمناطق المعارضة داخل قدسيا. انشغل الناس هنا بأعداد المهجرين من أحياء دمشق الريفية وبعض المحافظات الأخرى، حيث يشرف على هذا التفاهم وجهاء الأهالي، مثل رئيس بلدية قدسيا وأمين فرقة حزب البعث للمنطقة، وأحد الضباط المتقاعدين، بينما يعمل ناشطو المعارضة إلى جانب فرق الإغاثة في تأمين حاجات المهجرين، الذين يتجاوز عددهم 300 ألف من مجمل عدد سكان المنطقة. «تقع بين الحين والآخر أحداث على مستوى فردي وإطلاق رصاص بين حواجز الحرّ واللجان الشعبية على خطوط تماس قليلة محيطة بالمنطقة. بعد اجتياح الجيش السوري دفعت المنطقة ثمناً باهظاً لم يكن في الحسبان على كافة المستويات، واليوم تعني المصالحة بالنسبة لنا جميعاً إيقافاً تاماً للعنف»، يروي أبو عادل، الناشط في الإغاثة الأهلية لـ«الأخبار». ويؤكد أنّ «مساعدات الأونروا مخصصة للمهجرين الفلسطينيين الذين يجلسون اليوم بالمئات في خيم ضمن الجامع العمري، أمّا مساعدات المهجرين السوريين فتأتي من الأهالي والجمعيات الخيرية فقط وقد تنقص أحياناً».
«إذا تشاجرت جارة مع جارتها في قدسيا، يلزمهما مصالحة وطنية لتعود المياه إلى مجاريها، وهذا يحدث يومياً»، يعلق أحد العاملين في مركز التوزيع المجاني للثياب المستعمل والطعام للمحتاجين وسط ساحة قدسيا. بينما تؤكد أمّ محمد، التي جاءت من منطقة حرّان العواميد في الغوطة الشرقية لدمشق، أنّ «ابنها الوحيد يعمل في أحد المحال التجارية هنا، ويأخذ راتب عشرة آلاف ليرة يصرف منها علينا أنا وأختيه حيث نعيش هنا ضمن أحد خيم الجامع العمري». ومثل هذه المرأة ثمة آلاف السوريين النازحين من مخيم اليرموك والقصير وريف دمشق بلا أزواج أو أبناء يعتمدون على المساعدات البسيطة التي تأتيهم من الأهالي وبعض منظمات الإغاثة المحلية.
تفسّر المصالحة الوطنية هنا عبر دعم اللاجئين ومحاولة إعادة العمل والحياة للمناطق المتضررة من قسوة المعارك. سياسياً تبدو المنطقة منعزلة ومطوقة بشدة، وأهلها لديهم رغبة بأن تستمر حياتهم. مطالب بعضهم السياسية كانت في ما مضى متعلقة بشؤون عقارية أو ضرائب معينة. «أنا طلعت بالمظاهرات من أول أيام الثورة لأن الدولة وضعت يدها على قطعة أرض لي في محيط قدسيا بحجة أنها قريبة على منطقة عسكرية!»، يقول عماد حنفي (اسم مستعار). يمكنه أن ينقلك عبر دراجته النارية إلى بعض المناطق التي فقدت كافة مظاهر الحياة، حيث بقيت آثار القصف والحرائق كما هي بتفاصيلها، مثل معمل بردى الشهير للبيرة، الذي توقف عن العمل منذ سنة ونصف السنة تقريباً، إلى جانب عبارات التظاهر التي لم تمسح بعد عن جدران المنازل والمحال التجارية، وذلك بسبب سيطرة العناصر المسلحة من المعارضة عليها. استراتيجية المكان حتّمت على السلطات السورية حسم الأمر بأي طريقة، بعد دخول قدسيا العصيان المسلح منذ أشهر قليلة. ولعل الأهالي أدركوا ذلك، نظراً لموقع المنطقة القريب من معسكرات الجيش السوري في جبل قاسيون وما خلفه. ربما لا تعرف وزارة المصالحة الوطنية أي شيء عن طبيعة هذه المصالحة الاجتماعية الأمنية التي عقدها الموالون والمعارضون، فهي تقتصر على الأمور المعيشية وحسب، لا مطالب سياسية تجعلها نموذجاً لم يرده السوريون من تغيير. أحد وجهاء قدسيا، فضّل عدم ذكر اسمه، أشار لـ«الأخبار» إلى أنّ «المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي قام لأجلها أهل قدسيا بالتظاهر، وحمل السلاح لاحقاً، يمكن أن تحلّ بالحوار (...) لا داعي لتوريط الجميع بعمل عسكري مستفز».
الناس هنا ما زالت تناهض السلطات الرسمية وتتظاهر. أحياناً تسقط قذائف هاون على المنطقة من مصادر مختلفة، ولا يوجد أي مظهر للحكومة في الداخل على ما يبدو، ولا حتى شرطي مرور. رجال المخفر لا يتدخلون بالمشاكل كما يؤكد البعض، ولولا تفاهم بعض الوجهاء من الطرفين لتحولت قدسيّا إلى بقعة دمار كما داريّا وسواها من المناطق الساخنة. يخاف الأهالي والمهجرون هنا من انفجار ميداني للصراع. معظمهم لا يضمن أي طرف، رغم وجود عدد هائل من السكان، لكن الانقسام يحكمهم بوضوح، والاتفاق الوحيد الذي يعترفون به هو أنّ لكل منهم حقوقاً، معارضين كانوا أم موالين. مؤخراً تظاهر بعض الأهالي أمام الجامع العمري منددين بالمجزرة الكيميائية التي حدثت منذ أيام في ريف دمشق، بينما تراقبهم عيون المهجرين من نوافذ الجامع المقفل ليلاً.