من مصدر (فتن) اللغوي يمكننا اشتقاق فاتن وفاتنة وافتنان وإلخ، كما يمكننا توليد كلمة «فتنة» من المصدر ذاته، مع الفارق الكبير بين المعنيين لجهة التراكم التصوري للألفاظ عبر الزمن. لكنّ «الفتنة» لم تغادر قاموسها اللفظي لمعناها التصوري المعبّر عن الصراع دون مصالح واضحة، أو مسؤوليات واضحة، أو زمن واضح، أو منظومة معلومية أو معرفية واضحة، لتبدو «الفتنة» قد استقرت في قاموسها اللغوي المتوارث معبرة عن كل شيء ولا شيء في آن واحد. فهي لفظ شفاهي مطاط مدان، يقودنا إلى أي مكان أو حتى اللامكان، دون أي مسؤولية تذكر لقائلها أو لممارسيها، وأقصى ما يمكن القول فيها وعنها، إنّ كان في توصيفها أو تعريفها، إنها نائمة أو مستيقظة، وذلك حسب المنبر الذي تلقى منه، كإدهاش اكتشافي غير مسبوق! على أسماع، وليس على عقول، ما يؤدي حكماً إلى إعادة إنتاجها من خلال تلقيها لغة، كلفظ تثريبي، يحتاج إلى حشد الأدلة والحيثيات لإثبات صحة الاستقطاب المؤدي إليها، وما يحمله هذا الاستقطاب من ذرائع وتبريرات، تؤكده وتؤكد الأسباب الموجبة لبذل الغالي من أجل تصحيح مسار (وقائع) مضت ولا يمكن تصحيحها أو إعادة فعلها بشكلها المرتجى. لذا لا يبقى للآخر، طرف الفتنة المعاكس إلا أن يقبل التحدي، ليس كي يدافع عن وجوده فقط، بل أيضاً للدفاع عن وجود آخره هو الذي سوف يعرف ويعرف به، أي إننا أمام دراما لانهائية تتوالد من ذاتها دون أي حراك معرفي، في تكرار ممض للمعلومات بعد إلباسها حللاً قشيبة من لغة اضطرت إلى الخضوع لتحولات لفظية (ليست تقنية على أي حال) بفعل الزمن. بين الخطيئة البشرية والخطأ البشري مسافة شاسعة، لا يمكن إلا للغة شفاهية احتماله وتبريره. والأخطر نقله إلى حيّز ثقافي فعال، لتصبح «الفتنة» نفسها كما لعبة «البازل»، جاهزة سلفاً، ويمكن أيّ «لبيب» إعادة تركيبها وسط دهشة المريدين، دون أي خوف من مسؤولية. «فالمهارة» تدعو إلى الثقة والتسليم، ولكن الطامة الكبرى أن «الدنيا» ليست على مثال لوحة البازل معروفة النتائج، أو بالأحرى خطيرة النتائج وعلى الأغلب كارثية، بل تحتاج إلى أكثر بكثير من المهارة الشفاهية المنبرية السمعية. فهي تحتاج إلى الخطأ التجريبي الدنيوي الإبداعي، الذي يتضمن ويضمن تفاديه وعدم تكراره. ومن هنا يبدو الافتراق مكلفاً للغاية على الرغم من الاشتراك في الجذر اللغوي ذاته (الخطأ والخطيئة)، وفي ذات الكائن المنفذ للفعلين (البشري). وهكذا تبدو الخطيئة المؤسس عليها «فتنة» كخطأ بشري دائم مستمر لانهائي، ولا يمكن محوه، لا ببساطة المعلومات التراثية، ولا بنباهة المعرفة البشرية، على الرغم من كل إنجازاتها، ليشتق فكر الفتنة حقله الثقافي الخاص كغيتو تفكيري يختص بممارسة التظالم الثأري التحاقدي، على الرغم من كل العلم المسبق بمفاعيله.
لا يمكن أي «فتنة» ولا أياً من منوّميها وموقظيها أن يثبتوا أي مصلحة مجتمعية من خلال ممارستها. فالفتنة بطبيعتها (المدروسة وليس البدهية) تنتمي إلى مكان يقال فيه إنه ما قبل المجتمع، بكل معانيه، حيث تبدو كمعطل دائم التطور، لتوليد المجتمع وأيضاً في كل معانيه. فالمجتمع هو التجمع البشري على قاعدة المصالح، والفتنة صراع دنيوي خال من المصالح، يستطيع اختطاف وتأجيل تفعيل هذه المصالح إلى ما لانهاية له، تحت غطاء من التصحيحية الجماعية المقودة شفاهياً، التي يمكن تفسيرها لغوياً ومنبرياً، تارة كديمقراطية تذود عنها أكثرية أو أقلية حفاظاً على الحقيقة، وطوراً كحقوق إنسان _ المولود الأكثر تطوراً (ولو نظرياً) للثقافة البشرية _ ليظهر أن التجمع البشري غير قادر على توليد مجتمعه على الرغم من كفاية الأدلة على وجود جنينه. وعلى الرغم من وضوح وتوافر كل المعلومات والتجارب البشرية الناجحة، والغطاء «الديموقراطي» لحصول ذلك، إلا أنّ أولوية تصحيح الخطيئة البشرية الموصوفة شفاهياً لما تزل عالقة في رحم هذا التجمع البشري، مانعة أيّ خصب من إبداء وجوده، بذريعة الاضطرار إلى ممارسة فعل الفتنة، كحالة طوارئ غير موقتة حفاظاً على «الوجود».
التحشيد الثقافي هو الأداة الأهم بين أدوات أداء «الفتنة»، فهو أهم من التمويل والدعم والتسليح. وهو في بنية مبسطة لا تحتاج إلا إلى تلك التبسيطية المعلومية المشخصة كوسائل الإيضاح في المدارس، تماماً كتلاميذ تنقصهم المعلومة، ولا يمكن المحافظة عليهم في تراتبيتهم إلا بتحديد مجال ممارسة المعلومات دون تحويلها إلى معرفة. وهو ما يفسر مسألتين: الأولى هي منع التفكير، أو الاستبداد بسبب عدم الأهلية، بالمحافظة على التخلف طازجاً. والثانية: الخوف من فقدان الهوية كمنجز معرفي موروث وثمين إلى درجة أنه بحاجة إلى حماية استثنائية. ومع هذا فإن كل معلومات «الفتنة» المفضية إلى الافتداء الدموي تتعاكس مع بروز الشخصية الفردية المبدعة المعاكسة بدورها للتحشيد (مثالاً)، مع التسليم بضرورتها في مجتمع المصالح، ولكنها تجريدية (الشخصية الفردية) بحيث لا يقوى المشخص الثقافي الشفاهي التبسيطي على استيعابها، في دورة كاملة للاستبداد بسبب عدم الأهلية، ليبرز شعار اقطع يدي أو رأسي قبل أن أرضى بتشويه أو إلغاء أي من معلوماتنا الثمينة الموروثة، حتى لو كانت من البارحة. وأقدم الغالي والنفيس، حتى الدم، كي لا أسمح للآخر بتشويه التاريخ، أو قراءته على مزاجه. وهنا تقترح الفتنة جبهات واعدة في حال «الانتصار» على العدو الحالي، مصيبتها أنها معلومة ومدانة النتائج والكوارث، ليبدو التحشيد لها فعلاً عن سابق تصور وتصميم، يبدأ من بديهيات تشخيصية لا يمكن الاعتراض عليها، ولا ينتهي بإسالة الدم، بل ينتهي بإشادة بنية حياتية سلبية غير مجتمعية، عبثية وجزافية، اسمها صيغة لا غالب ولا مغلوب _ (وعكسه الإنساني ليس غالباً ومغلوباً بالطبع ) _ ليتحول الاستبداد إلى حالة اختطاف المصالح البشرية، والتعامل معها كرهائن، في تفسير كارثي للحق والباطل، وللهوية أيضاً.
من غير المعقول أو المقبول أن يكون هناك «فتن» في هذا الزمان. فأحد الأركان الأساسية «لإيديولوجيا» الفتنة هو سوء التفاهم، الحاصل بسبب الميديا (حسب زمانها ومكانها)، المسؤولة عن تصنيف وتدبيج المعلومات وشحنها بشحنات (موضوعية)، ونقلها إلى المتلقي، حيث لا مكان لطيب النيات، أو سوء التفسير، أو خصوصية المعلومات أو عدم عموميتها، أو شكوى من بطء نقلها وتكنولوجياته. وكل ذلك تحت لافتة كبيرة تنبّه من مخاطر الفتنة الكارثية، لتظهر الحاجة الأكيدة إلى التخلف من باب تأثيم القيم التي تفرضها التكنولوجيات المستخدمة عنوة، ومن خارج نطاق النضوج المدني، والحضاري بالتأكيد.
لا يصدق أن تكون هناك فتنة في يومنا مع كل هذا الكم من تكنولوجيات العيش البشري. كيف لها أن توجد بوجود هذا الإنجاز التفكيري الدنيوي الهائل؟ كيف للمرء أن يصدق ويقتنع بوجودها؟ إلا إذا كان رهينة فعلية للاستبداد الثقافي.
* سيناريست سوري