كان ينبغي أن لا تكون هناك حاجة إلى مواقف صريحة ومباشرة من قبل المسؤولين الإسرائيليين لاكتشاف المصالح الإسرائيلية في واقع سوريا ومستقبلها. لكن الحملات المدروسة والمصالح المتضاربة باتت تستوجب التذكير بما لم يغب عن وعي قادة العدو، وتحديداً الدور السوري المحوري في دعم مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان التي أنتجت انتصارات تحولت إلى منعطف استراتيجي وتاريخي في حركة الصراع مع العدو (تحرير الأراضي اللبنانية... وانتصار حرب تموز)، وبلورت معادلات ألقت بظلالها على الواقع الإقليمي في مواجهة إسرائيل... أضف إلى الدور السوري المباشر في دعم المقاومة في فلسطين. وبالتالي، أيّاً كان التقدير والموقف من الهدوء الذي ساد في الجولان المحتل خلال العقود التي تلت حرب عام 1973، القدر المتيقن أن هذا المشهد لم يكن إلا جزءاً من الصورة المركبة على مستوى المنطقة.
من أجل ذلك، لم يكن مفاجئاً أن من حمل راية التبشير بإسقاط النظام السوري، وعلى رأسه الرئيس بشار الأسد، خلال عامي 2011 و2012، كان وزير الأمن إيهود باراك، واصفاً ذلك بـ«البركة على الشرق الأوسط»، وبأنّه يشكل ضربة لما سمّاه الجبهة الراديكالية الممتدة من طهران إلى حزب الله في لبنان. واستمر هذا الرهان بحسب تقدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إلى عام 2013. وهو ما كشف عنه رئيس وحدة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية «أمان»، العميد ايتي بارون، (إسرائيل اليوم 16/1/2015)، الذي أقر مباشرةً بأن السيناريو الأمثل بالنسبة إلى إسرائيل في الساحة السورية «لم يعد واقعياً» حتى عام 2013، موضحاً أنه حتى ذلك الحين «كان يمكن شيئاً ما أن يتحقق... ولو عمل الغرب آنذاك لكان قد نهض من داخل الدمار طرف سنّي معتدل، إلا أن هذا لم يحدث». ورغم اليأس الإسرائيلي في حينه من تبلور مسار يجسد الطموح الإسرائيلي بصيغته القصوى، كما كشف بارون، إلا أن وزير الأمن موشيه يعلون، حدد ثابتة أساسية في التوجه الإسرائيلي على الساحة السورية، خلال لقائه رئيس أركان الجيوش الأميركية مارتن ديمبسي، بالقول: «من غير المسموح أن ينتصر محور الشر، الممتد من طهران إلى دمشق وبيروت، في الحرب الدائرة في سوريا» (14/8/2013).

مصلحة استمرار الاستنزاف

بعد المستجدات الميدانية التي شهدتها الساحة السورية، وإبعاد خطر سقوط النظام في دمشق، وتبلور معادلات جديدة اقترنت بسقوط الرهان على إسقاط الرئيس الأسد في تلك المرحلة، كان على إسرائيل أن تحدد سقفاً آخر لمصالحها، يتلاءم مع الوقائع الميدانية والسياسية المستجدة في الساحة السورية. ورأت إسرائيل، على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، أن مصلحتها تكمن في استمرار الاستنزاف السوري... وبرر موقفه بمقولة أنه «إذا اقتتل عدواك... يجب تركهما يُضعف أحدهما الآخر». وكرر هذا الموقف في أكثر مناسبة، وذهب إلى حد اتخاذ موقف واضح بالمفاضلة بين محور المقاومة وداعش بالقول بأن «ضرب داعش وترك إيران، هو انتصار في المعركة وخسارة للحرب». وكرر يعلون التقدير والموقف نفسه، بل كان أكثر مباشرة عندما أعلن خلال مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومي الأخير، (كانون الثاني 2016) أنه «بين إيران وداعش في سوريا» فإن إسرائيل «ستختار داعش»، مشدداً على أن العدو الأكبر لإسرائيل هو النظام الإيراني.

مصلحة التقسيم

مع أن التقدير الإسرائيلي بأن المعركة في سوريا ما زالت طويلة، وهو ما ظهر في تشكيك الأجهزة الأمنية في ديمومة اتفاق وقف النار («هآرتس»، شباط 2016)، لكن المسار السياسي دفع إسرائيل إلى مواكبته بمواقف ترى أنها تجسد مصالحها. وهو أمر عبّر عنه نتنياهو أمام مؤتمر دافوس (21/1/2016) بالقول إنّ «أفضل نتيجة يمكن الحصول عليها (في سوريا) هي بلقنة هادئة نسبياً... هذا أفضل ما يمكن الحصول عليه». ويلاحظ على هذا الموقف أن نتنياهو حرص على أن يبدو فيه كمن يتحدث من موقع المراقب الذي يستشرف الأحداث، خاصة أنه لم يعقب عليه بأي موقف (!) تجنّباً للظهور كمن يدعو إلى تقسيم سوريا.
وينسجم أداء نتنياهو مع توصية تقدم بها معهد أبحاث الأمن القومي، ضمن دراسة تناولت الواقع السوري (11/10/2015)، أكدت فيها ضرورة أن لا تبدو إسرائيل «كمن يقود مطلب تقسيم سوريا في المنظومة الدولية، وإنما التركيز على مصالحها الحيوية» مع تأكيدها أن «تقسيم سوريا يتساوق أيضاً مع المصالح الإسرائيلية».
في كل الأحوال، حدد نتنياهو المصالح المباشرة الإسرائيلية، التي في ضوئها يتحدد الموقف من كل ما يطرح على الساحة السورية، سلماً أو حرباً، عبر التشديد على أن الخطوط الحمراء نفسها المعلنة من قبل إسرائيل هي نفسها التي ينبغي مراعاتها في أي تسوية سياسية أمنية مستقبلية. وكرر الإشارة إلى مضمون الخطوط الحمراء الإسرائيلية التي تقوم على أساس منع بقاء سوريا عمقاً للمقاومة في لبنان، عبر القول إن إسرائيل لن توافق على تزويد حزب الله بسلاح متطور من سوريا إلى لبنان، وعلى فتح جبهة ثانية في الجولان.
وعلى الخلفية نفسها، يبدو أن إسرائيل ستطالب بترتيبات خاصة تتصل بجنوب سوريا، عبر الأطراف الدولية المؤثرة، موسكو وواشنطن، في أي اتفاق مفترض، خاصة أن «تقدم قوات الجيش السوري في الجنوب السوري أثار القلق في تل أبيب في البداية، خشية أن يستغل الرئيس بشار الأسد ذلك، ويطلب من قواته زيادة السيطرة في الجولان السورية، بالقرب من الحدود مع إسرائيل». وحذرت من أن تطوراً كهذا «كان يمكنه أن يشوش على الهدوء السائد، على طول الحدود، والراسخ نتيجة تفاهمات غير رسمية بين إسرائيل والميليشيات المحلية» («هآرتس»، شباط 2016).