تأكدت الأخبار حول مقتل الأب باولو دالّوليو على يد المسلحين. كانوا يسمّونه الأب باولو اليسوعي عن خطأ. ترك تلك الرهبنة عام 1982، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وذهب إلى سوريا بعدما رأى بأم العين تواطؤ أفراد من رهبنته مع مغول القرن العشرين أولئك. كتب أطروحته عن مار سمعان العمودي، الذي لا يزال العمود الذي جلس عليه قرابة 40 سنة موجوداً حتى الآن في «قلعة سمعان»، غربي حلب. أخذت شعوب الأرض عن مسيحيي سوريا البيزنطية أموراً عدّة، منها هذا النمط من أفعال التضحية.
أراد أن يتشبّه به. رمّم ديراً قديماً على رأس قمة في جبال القلمون، أجمل ترميم. كان يستقبل الوافدين ينامون ويأكلون، إذا شاؤوا ساهموا مالياً وإذا لا، فلا أحد يطالبهم.
كان من فروض اللياقة كضيوف، حضور القداس الصباحي، متربّعين على الأرض. كان في قداس الأب باولو عودة إلى أصول العربية، لا يتعرّف إليها المؤمنون في أي مكان آخر. كأنه كان يؤكد أن المسيحية عربية، وأنها لم تكن إلا كذلك.
لم يكن نجماً. بالصدفة تعرّفنا إليه كوافدين للسياحة. أذكره بتلك الهامة الكبيرة، والكوفية المرقّطة التي لا تفارقه، وبعربيته التي كان يرفض أن يتحدّث بغيرها. كان من الصعب التمييز بينه وبين مطلق مواطن سوري. لم يذهب الأب باولو للتبشير في سوريا. يعرف قواعدنا وعاداتنا مثلنا وأكثر. أراد الشهادة للمسيح في قلب الأرض العربية من دون زيادة. وهذا كان متوافراً في سوريا.
كان ثمة شيء آخر مقرون بتلك الشهادة: كل ذلك الحب لسوريا. الرغبة في أن يكون سورياً عادياً ينتعل خفّين، ويضع كوفية على رأسه، ويشع محبّة.

***


لم أعرف أخباره إلا مما أوردته الصحف. قالت مرّة إنه ترك إلى إيطاليا تحت ضغط السفارة. وقالت مرّة أخرى إنه صرّح ضد النظام القائم. وعرفت بعدها أنه عاد إلى سوريا. كان ثمة استحالة أن يبقى بعيداً عن هذا الجحيم المفتوح. هذه سوريا التي أحبها بكل جوارحه، وشهدت تألّقه، تموت كل يوم ألف ميتة، فكيف يبقى بعيداً عنها. بل لعلّه عوّل على شيء ممكن مع هؤلاء الحاقدين والأوغاد الذين أردَوه. من هو مثل الأب باولو، يذهب إلى الآخِر.
* باحث لبناني