دمشق | يتمركز حي التضامن الدمشقي في المنطقة الواقعة بين جنوب حيَّي الزاهرة والميدان، وشرق مخيَّم اليرموك وشارع فلسطين. أما في الغرب، فيبدو شارع «الدعبول» خاوياً من أية مظاهر للحياة، خصوصاً بعدما تهدَّمت أكثرية الأبنية القابعة فيه. ويتفتح التضامن عند الجنوب على منطقتي يلدا وببيلا، ما يجعله نقطة وصل مع ريف دمشق والغوطتين الشرقية والغربية، وهذا ما يسهِّل عملية وصول إمدادات السلاح للمقاتلين المعارضين في الحي. في بداية الأحداث، خرجت التظاهرات السلمية في التضامن أيام الجمعة على نحو مكرر ورتيب، إلا أنه «وبعد مقتل الشاب (نبيل اللكود) احتقن الحي فهاج العديد من شبابه، وبدأ السلاح ينتشر بشكلٍ كبير. بتنا نرى للمرة الأولى أصحاب العصبات السود تجول في حاراتنا»، يقول محمد عجلوني (34 عاماً)، وهو النازح من الحي بعد سلسلة مضايقات تعرَّض لها. ويستدرك في حديثه مع «الأخبار»: «هذا السبب الظاهري لانتشار السلاح، أما الحقيقة فهي أنه، ومنذ اللحظة الأولى، كان هناك من يعمل على تسليح شباب الحي بشكلٍ سري، وكان مقتل الشاب هو الحجة المطلوبة لإشعال فتيل الاقتتال». تتعدد الروايات التي تحاول تفسير سبب انتشار السلاح بتعدد الانتماءات السياسية للمفسِّرين، إلا أن المؤكَّد الوحيد هو ضيق المدنيين ذرعاً من حالة العنف الأعمى التي أصابت أحياءهم وأحالتهم مهجرين ونازحين في داخل سوريا وخارجها. وتبدو فكرة الدخول إلى التضامن اليوم ضرباً من ضروب الجنون. يؤنبك أحدهم منبِّهاً: «انتحار، الدخول إلى هناك انتحار، مليون كتيبة تقاتل هناك». تصل عند الحاجز الأمني المُقام بالقرب من جامع «البشير» في أول شارع فلسطين لترى المئات من المنتظرين أمر السماح لهم بالدخول إلى الأحياء الملتهبة (اليرموك، فلسطين، التضامن). تلفتك أحاديثهم التي تنقسم بين من يسرد أسباب انتظاره، ومن يحصي الأيام التي مرت دون السماح لهم بالدخول، وآخر يستذكر بغصَّة أيام السلم في منطقته قبل الأزمة. تروي السيدة إ. الخليل حكايتها لـ«الأخبار» فتقول: «لم نحمل معنا سوى الثياب التي كنا نلبسها أثناء نزوحنا من الحي. شقاء العمر وما جنيناه بالليرة والليرتين ظل في منازلنا، لا نريد إلا أن يسمح لنا بالدخول لنأخذ ما تبقّى من ممتلكاتنا التي تعرضت للسرقة والنهب والتدمير»، ثم تخفض صوتها لتعقِّب: «لا نستطيع الدخول من جهة شارع نسرين (شمال التضامن) لأن ممارسات اللجان الشعبية هناك طائفية بامتياز. عندما يمسك أحدهم بهويتك الشخصية لا ينظر إلا إلى خانة مكان الولادة، وأنت وحظّك». بينما يؤكد حازم ع. أنّه «حتى وإن كان حظّك جيداً وسمحوا لك بالدخول، لا يسمح لك بإخراج سوى أكياس قليلة من حاجياتك. وبعد ذلك تتم عملية الغربلة. فمن منزلك إلى خارج التضامن تمر بالعديد من الحواجز الموالية والمعارضة، ما يعجبهم يسرقوه، وهكذا حتى تندم على ساعة تفكيرك بالدخول. أنا لا أخرج أي شيء من منزلي، أدخل كل فترة فقط لأطمئن أن منزلي لم يدمَّر بعد».

الخارطة الميدانية

ميدانياً، يسيطر الجيش السوري، بمساندة من مجموعات فلسطينية مسلَّحة، على المنطقة الممتدة من جامع «البشير» حتى مخفر التضامن، أي ما يوازي نصف مساحة شارع فلسطين. بينما تسيطر اللجان الشعبية على شارع «السبورات» الممتد من المدخل الشمالي للتضامن إلى المخفر الذي تم حرقه منذ بداية الاشتباكات. أما المنطقة الفاصلة بين المخفر ودوار فلسطين، وكذلك الحارات الداخلية للتضامن وما حوله فهي تحت سيطرة بعض كتائب المعارضة المسلَّحة، بالإضافة إلى متشددين إسلاميين. وتبدو تفاصيل الاشتباكات هناك مترامية ما بين كر وفر، فمنذ أشهر لم يتحقق تقدماً جدياً وملموساً لأحد الأطراف المتصارعة في الحي. أما المنطقة برمتها فتعيش حالة مزرية من حيث الدمار الذي طالها من جهة، وصعوبة وصول الخدمات الصحية وسيارات النظافة إليها نتيجة الاشتباكات هناك من جهة أخرى.
حتى من تبقى من المدنيين في الحي لا يستطيعون اليوم إدراك كل الحقائق والتفاصيل المعقدة للمعركة الدائرة هناك. فعلى سبيل المثال، يستوقفك أحد المعارضين القاطنين في الحي ليجزم: «هناك عناصر لبنانية من حزب الله يشاركون في القتال هنا. يمكنك تمييزهم من لهجاتهم اللبنانية الواضحة». بينما يؤكد أحد العسكريين المتواجدين في الحي لـ«الأخبار»: «لا يوجد أي عنصر من عناصر حزب الله هنا، هذا وهم وادعاء باطل، هناك عناصر فلسطينية من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــ القيادة العامة ممن تم استقدامهم من منطقة الناعمة (جنوب بيروت)، بعض هؤلاء يتحدث باللهجة اللبنانية أحياناً، ولهذا تلتبس هويتهم على البعض، إلا أنهم فلسطينيون ويحمون مخيماتهم، فما العيب في ذلك؟».
وعن خطر الاحتقان الطائفي في الحي يرى الشاب م. ج. (رفض نشر اسمه) أن كلاً من اللجان الشعبية و«جبهة النصرة» هي من تؤجج هذا الاحتقان، فقال: «تكررت ظاهرة عند محور البلدية (في شارع فلسطين) أقل ما يقال فيها أنها مقرفة، إذ تقوم جبهة النصرة ببث الأناشيد الدينية الخاصة بتنظيم القاعدة على مكبِّرات الصوت، لترد اللجان الشعبية عليها بتوجيه مكبرات الصوت نحو أماكن تواجد النصرة، ولتبث أناشيد خاصة بإحدى الطوائف الدينية الأخرى». يتحسر قليلاً ثم يتابع: «أنا أعرف أننا نحن المدنيين، والشرفاء السوريين من الطرفين، براءٌ من هذه النعرات الطائفية.
كانت ميزة حي التضامن الأساسية أن سكانه من طوائف دينية متعددة، إلا أن الوحدة الوطنية لا تلائم الخونة من الطرفين». في العموم، يشكِّل الأمل بالعودة إلى المنازل، وعودة الحياة الطبيعية إلى حي التضامن، أكبر الرغبات التي يتمنى أهالي الحي تحقيقها، معلقين آمالهم تلك على حلٍ سياسي قريب، يعيد الأمان إلى الشعب السوري، ويضمن وحدة البلاد أرضاً وشعباً وجيشاً، وحتى إنجازه سيبقى أهالي الحي ينتظرونه عند الحواجز، وفي أماكن نزوحهم الداخلي والخارجي.