بعدما كانت صحراء سيناء على مدار سنوات حكم الرئيس المصري حسني مبارك، منطقة عازلة منزوعة السلاح وشريطاً أمنياً فعلياً لاسرائيل، تحولت بعد الثورة وسقوط النظام الى مصدر قلق أمني لها، بفعل انتشار مجموعات تابعة لـ«الجهاد العالمي»، التي حاولت وتحاول توجيه ضربات الى أهداف اسرائيلية، آخرها كان أمس. هذا الواقع المستجد فرض على القيادة الاسرائيلية تعزيز النشاط الاستخباري واعادة بناء وتطوير جهوزية عملانية بما يتناسب مع طبيعة التهديد والظروف المحيطة. لكن مما يميز المخاطر النابعة من سيناء أيضاً أنها جزء من مسار عربي اقليمي، أعاد انتاج خارطة معدلة للتهديدات والفرص المتصلة بالأمن القومي الاسرائيلي، التي لا تزال تقديرات المؤسسة الاسرائيلية، بفروعها الاستخبارية والسياسية والعسكرية، لمآلاتها المستقبلية، مفتوحة على احتمالات ومسارات متعددة، خصوصاً في ضوء سقوط حكم الاخوان المسلمين والتجاذبات التي تشهدها الساحة المصرية.
القراءة الاسرائيلية لواقع الساحة المصرية وآفاقها، عبَّر عنها المقدِّر القومي ورئيس الاستخبارات العسكرية، اللواء أفيف كوخافي في أكثر من مناسبة، منها ما أعلنه في مؤتمر «هرتسيليا» الأخير، عندما اعتبر أن الهزة التي يتعرض لها الشرق الاوسط «تزداد عنفا يوما بعد يوم، وتخلق فراغا تندفع فيه عناصر من الإسلاميين والسياسيين والجهاديين»، مضيفاً أن «اسرائيل محاطة بمناطق لا تسود عليها سيادة، وهو ما يسمح بالتدفق الحر للموارد، والجهاد العالمي يعيش من ذلك، والقاعدة تعمل على التحول من جهاد عالمي إلى جهاد محلي، ولأول مرة منذ عقود، تحيط بدولة اسرائيل أربعة حدود نشطة يمكن أن تبدأ منها الهجمات الإرهابية».
في مناسبة أخرى، أوضح كوخافي أن ما تتعرض له اسرائيل من إطلاق صواريخ وعمليات متفرقة انطلاقاً من صحراء سيناء، ما هو الا تعبير عن التغيير الجوهري الذي يشهده العالم العربي، مشدّداً على أنّ «المنظمات الإرهابية تعزز قواعدها وسيطرتها في سيناء». وتابع أن التجارب تؤكد على ضرورة الاستعداد لجبهات جديدة وتصاعد التهديدات وعدم الاستقرار الأمني الذي سيميز المنطقة في السنوات القريبة، خصوصاً أن «الواقع يتغير بسرعة كبيرة مقارنة مع السنوات والعقود الماضية، ويتحول إلى كثير الأبعاد وبمركبات كثيرة».
في السياق نفسه، أكد رئيس الاستخبارات، كوخافي، في تقريره السنوي العام الماضي، والذي قدمه لاعضاء هيئة اركان الجيش ورئيسها بني غانتس، أن اسرائيل ستواجه بيئة تعاني من مجموعة أزمات اقليمية وداخلية تساهم في رفع منسوب الحساسية لدى القوى الفاعلة في نطاقها، الأمر الذي قد يؤدي الى اشتعال نزاعات دون تخطيط مسبق.
مع ذلك، ينبغي الاشارة والتأكيد على أن القراءة الاسرائيلية للتهديدات التي تشكلها فصائل «الجهاد العالمي» في سيناء «لا تزال تكتيكية حتى الآن، وبالتالي يمكن التكيف والتعامل معها، ومآلاتها مرتبطة بالتجاذبات والصراعات داخل الساحة المصرية. في ظل الواقع المتعدد الابعاد والمتشكل من عناصر كثيرة، واستمرار محاولات الاستهداف التي لا تتوقف، انطلاقا من سيناء»، كما أكد كوخافي خلال حفل إنهاء دورة ضباط استخبارات في «غليلوت» في نيسان العام الماضي.
وتجد اسرائيل نفسها ملزمة ببحث وتحديد البدائل التي توفر قدراً من الأمن، والتي يبدو من المواقف والخطط والخطوات الاسرائيلية، أنها مركبة من دفاع سلبي ودفاع فعال، فضلاً عن تعزيز النشاط الاستخباري والتنسيق مع الحكومة المركزية في القاهرة، الى جانب الاستعداد العملاني لخيارات ومفاجآت تفرضها التطورات.
لجهة الاجراءات الدفاعية، أقامت اسرائيل سياجاً حدودياً في منطقة تمتد على طول عدة كيلومترات على سلسلة جبال صخرية ومنحدرات وأودية عميقة، بعدما امتنعت عن ذلك بفعل التكاليف المالية، لكن التهديدات الأمنية النابعة من سيناء فرضت على القيادة الاسرائيلية تجاوز هذا الاعتبار. كما يحضر في هذا المجال منظومة القبة الحديدية، الاعتراضية للصواريخ القصيرة المدى.
غير أن السياج الحدودي وحده لا يحول دون تعرض اسرائيل لهجمات صاروخية وغير صاروخية، وأي خط دفاعي لا يمكنه أن يقوم بدوره كما يجب إذا لم يكن مقرونا بمنظومة إنذار. ولذلك، برزت الحاجة الاسرائيلية الى تعميق عملها الاستخباري في سيناء إما من أجل احباط عمليات يجري التخطيط لها، أو بهدف اخبار الطرف المصري كي يقوم بالمهمة تجنباً للاقدام على ما قد يحرج النظام المصري ويمس بمعاهدة كامب ديفيد.
لكن الواضح حتى الآن، أن المصلحة الاستراتيجية الاسرائيلية لا تزال تفرض على القيادة الاسرائيلية التحرك ضمن سقف معاهدة كامب ديفيد، رغم القيود التي تفرضها على حركة الجيش الاسرائيلي، خاصة أن تداعيات تجاوز المعاهدة لا تُقاس بنتائج اي مخاطر أمنية مهما كانت كبيرة، والتي لا تزال حتى الآن تكتيكية ومحدودة.
وبغض النظر عن مدى دقة ما نقلته صحيفة «هآرتس»في نيسان 2012، من أن اسرائيل أوصلت تهديداً للقيادة المصرية بأنها ستعمل بنفسها داخل أراضي سيناء اذا لم تقم السلطات المصرية بكبح جماح العصابات هناك، فإن سيناء باتت نقطة ضعف تخشاها الدولة العبرية برغم قدرتها على التعامل معها، انطلاقاً من اطمئنان المجموعات «الجهادية»، إلى أنّ هجماتهم من سيناء لن يصاحبها اي رد انتقامي من جانبها. وبالتالي من الصعب استبعاد سيناريو تتسبب فيه جماعات صغيرة في إثارة ردود فعل تؤدي الى مواجهات أكبر، خاصة أن نفس هذه المجموعات أو امتداداتها في قطاع غزة تتعرض من حين الى آخر لضربات اسرائيلية، وفي ضوء ذلك من الطبيعي أن تحظى العملية التي يقوم بها الجيش المصري في سيناء برضا وتغطية من الجانب الاسرائيلي.
المجموعات الجهادية بين سيناء وسوريا
في هذا الشأن ينبغي التأكيد على حقيقتين: الأولى تقول إنه بالرغم من التشابه الظاهري بين مخاطر مجموعات الجهاد العالمي، في سوريا وسيناء، فإن الظروف المحيطة بكل منهما تترك اثرها الكبير على الرؤية والمقاربة العملانية الاسرائيلية. اذ في الحالة السورية يشكل إضعاف تلك التنظيمات والمجموعات مكسباً ونصراً للنظام السوري، الأمر الذي يعني أيضا انتصاراً لمحور المقاومة، وهو ما يعني تهديداً استراتيجياً على الامن القومي الاسرائيلي. لكن في الحالة المصرية، يشكل ضرب تلك المجموعات في الساحة المصرية، تعزيزا للسلطة المركزية المرتبطة بمعاهدة سلام مع الدولة العبرية.
الحقيقة الثانية، أن الموقف الاسرائيلي المعادي لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، والمعادلات التي تبلورت بعد انطلاقة الاحداث الاخيرة في سوريا، توفر دافعاً وهامشاً أوسع في المبادرة العملانية الاسرائيلية، رداً على ضربات لم تتعرض لها حتى الآن، اما ازاء الساحة المصرية فالقيادة الاسرائيلية مقيدة عن اتخاذ قرارات عملانية حتى لو شخَّصت تهديداً فورياً ومباشراً، ما دام تكتيكياً ومحدوداً، الا في حال التنسيق مع الجيش المصري.