غزّة | الفاعل هو السلطة بشقّيها في غزة ورام الله، والمفعول به من يخالف نهج السلطتين. أما الفعل فهو: اقمع، صادِر الحريات، تطفّل بشكل غير مبرر؛ كلها أفعال تختصّ بها السلطتان وتتناوبان على تطبيقها. في رام الله، يُزجّ الشاب في سجون الأمن الوقائي لمجرد أنه ضغط بإصبعه على زر «إعجاب» في الـ«فايسبوك» على مقال يعترض على سلك درب المفاوضات، أو شارك في صورة داعية إلى إسقاط اتفاقية أوسلو على صفحته. أما في غزة، فالذنب يصبح مضاعفاً، ليس لأن القمع أشدّ وطأة من قمع عاصمة سلطة أوسلو، بل لأنّ حاكمها يستهلك كثيراً كلمة الحرية ومرادفاتها، ويُكثر من الدعاء على خصمه السياسي، رغم أدائه الدور نفسه بحذافيره.
وبعدما سقطت حصون الإخوان المسلمين في مصر، وتهاوى الحكم الإسلامي في أكثر الدول إلهاماً للثورات العربية، انتاب حكومة غزة القلق حيال مصيرها القادم، فباتت تتوجّس من الإجابة عن السؤال الذي يطرحه الشارع «هل سيُكتب لغزة مصير الإخوان نفسه أم أنها تمتلك خصوصية المقاومة وستكون عصيةً على السقوط والانكسار؟».
أسئلة كثيرة تقطع الحكومة على الشارع فرص التفكير في إجاباتها عبر تعاملها مع كلّ المختلفين معها بالعقلية الأمنية البحتة. وتعدّ مواقع التواصل الاجتماعي إحدى أهم الوسائل التي يستغلها أفراد أمن حكومة غزة للكشف عن كتابات معارضيها وآرائهم الرافضة لحملات «حمسنة» المجتمع الغزي.
ويشكو الشباب في غزة من الشبح الأمني الذي يلاحقهم أينما حلّوا وارتحلوا، من دون أن يجدوا حلاً يقضي نهائياً على كل محاولات التجسس غير القانونية ضمن ما يعرف بـ«شرطة الإنترنت». أيمن (32 عاماً)، شاب غزي تلقى تهديداً من رقم خاص، عقب نشره مقالاً على «فايسبوك» انتقد فيه استقبال حركة «حماس» للشيخ يوسف القرضاوي في قطاع غزة. يقول لـ«الأخبار»: «صاحب الرقم الخاص قال لي بالحرف الواحد: نحن نعرفك جيداً، ونمتلك معلومات كاملة عنك، وأمامك عشر دقائق فقط لحذف المقالة فوراً عن صفحتك الفايسبوكية ومدونتك الشخصية، وإلا فستكون العواقب وخيمة». فما كان من أيمن إلا الرد عليه بالقول: «أنا لا أعترف بشرعية أي جهاز أمني، فكيف برجل يكلمني باسمهم وبرقم خاص. لن أحذف المقالة، وسوف أعيد نشرها، وأعلى ما في خيلك اركبه». عندها أجابه رجل الأمن «كله مش من مصلحتك، وشكلو كلامك كلام نهائي، طيب بتشوف»، قبل أن يغلق الهاتف فجأة.
أيمن واحدٌ من بين الآلاف الذين ترصد حكومة غزة كتاباتهم ونقاشاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي يومياً. محمد استدعاه الأمن الداخلي الأسبوع الماضي ليومين متتاليين على خلفية كتاباته وآرائه السياسية على الإعلام الجديد. تعرّض حسابه على «فايسبوك» و«تويتر» للقرصنة، عدا عن مصادرة أحد هواتفه النقالة وهويته الشخصية. يقول لـ«الأخبار»: «لفت نظر الأمن في صفحتي محادثة جمعتني مع مراسلة «الأخبار» في غزة في ما يخص رأيي في شخصية حسن نصرالله وأسباب تفضيلي حزب الله على «حماس»، فما كان مني إلا أن أخبرتهم أن المراسلة طلبت رأيي لتضيفه في تقرير صحافي خاص بها، وهذا حق طبيعي يكفله القانون لي ولها».
واضطر محمد بعدها إلى التوقيع على تعهد بعدم المشاركة في أي فعالية أو نشاط سياسي أو «التحريض» على الحكومة، لكونه مجبراً على مغادرة غرف التحقيق؛ فالمرض ينهش جسد والدته والخوف يصيبه من عدم تمكنه من إلقاء سلام الوادع عليها لو خطفها الموت منه. لم يكفّ الأمن الداخلي عن إرهاق نفسية محمد وعائلته، بل تعدى الأمر إلى الاتصال به من رقم خاص وتهديده بالقول: «احترم حالك وإلا بنقطعلك لسانك».
خالد (42 عاماً)، كان لحكاية الأمن الداخلي معه فصلٌ آخر تماماً. يقول لـ«الأخبار» إن الأمن دفع بفتاة نحوه عبر «فايسبوك» لجرّه إلى مربعها بهدف تلفيق قضية أخلاقية له. يؤكد أنّ هذه الفتاة تستّرت وراء اسم مستعار، وحرصت على إبداء إعجابها بما يكتبه على صفحته، قائلاً: «بعد أيام قليلة من التعارف، حاولت استدراجي وسؤالي عن انتمائي السياسي، وحين كذبت عليها وأخبرتها أنني حمساوي، مثّلت دور الكاره لحماس فيما أنا انبريت للدفاع عن الحركة». استمرت هذه الفتاة في الاعتماد على هذه الأساليب الالتفافية بهدف الكشف عن خبايا خالد وأفكاره، فتهرّبت مراراً وتكراراً من التصريح باسمها الحقيقي إلى أن طلبت من خالد تحديد موعد للقائها بهدف ضبطه متلبّساً بقضية أخلاقية، لكنه كان أكثر وعياً منها، وقرر عدم الذهاب، بحسب ما يقول.
رواية خالد واستخدام الفتيات من قبل «حماس» لإيقاع الشباب، أكدها أكثر من شاب لـ«الأخبار»، مشيرين الى أن الحكومة تستغل العنصر الأنثوي لأغراض مشبوهة بنفس الوسائل والأدوات التي كان يتبعها الأمن الوقائي من قبل. يقول شاب غزي رفض الكشف عن هويته إنّه خلال جولات التحقيق، كان الأمن الداخلي يطلب منه الرقم السري لبريده الإلكتروني، ويتفحّص الأمور الشخصية، في محاولةٍ منه لإلباسه أي قضية أخلاقية، مستحضراً إغلاق منتدى شارك الشبابي بحجة وجود أفلام إباحية على حواسيب الموظفين الشخصية، عدا عن ممارسة الجنس إلكترونياً. يقول سهيل (24 عاماً): «تستأجر فتاةٌ تعمل لمصلحة الأمن الداخلي بيتاً لها كل شهر، بعد أن يسقط شابٌ تلو الآخر فريسةً لها». ورغم أن «الأخبار» لم تستطع أن تتأكد من روايات أجمع عليها الشباب، غير أن المؤكد أن الأمن يتفنّن في صناعة أساليب التغرير بالشباب.