حتى الأشهر الأولى من الأزمة كان متوسط الأجور في سوريا حوالى 12 ألف ليرة سورية والحدّ الأدنى للأجور 9975 ليرة، بينما كان معدّل استهلاك الأسرة السورية في عدد من المحافظات حسب تقديرات المكتب المركزي للإحصاء يراوح بين 31500 و42000 ليرة. حينذاك أثيرت جملة تساؤلات عن كيفية تأمين المواطن لحاجاته الأساسية؟
أما الآن فإن متوسط الأجور لم يتجاوز 16000 ليرة سورية والحد الأدنى للأجور، وفق تقديرات أولية يراوح بين 13000 و13500 ليرة سورية. فيما ارتفعت تكاليف المواد الأساسية والغذائية عن أسعارها قبل الأزمة إلى أكثر من 300%، أي أنّ الأسرة المكونة من خمسة أشخاص تحتاج إلى حوالى ثلاثة أضعاف ما كانت بحاجة إليه قبل الأزمة، أي أنها تحتاج حالياً إلى دخل ثابت يراوح بين 95000 و126000 ليرة سورية شهرياً، لتأمين حاجاتها من المواد الغذائية والأساسية. فيما 80% من المجتمع السوري لا يتجاوز دخلهم الشهري 30 ألف ليرة سورية. ألا يعني هذا انهياراً اجتماعياً وإنسانياً؟ كيف للأسرة السورية أن تغطي نفقات احتياجاتها اليومية في لحظة تتواصل فيه أسعار السلع الأساسية القفز كما الفهد، وكذلك معدلات التضخم. إنّ حجم ارتفاع معدلات التضخم والأسعار الذي يقترن بداهة مع انخفاض القدرة الشرائية لليرة، يفوق أضعافاً مضاعفة القيمة الحقيقية لدخل الأسرة، بالتالي يفوق قدرتها على تأمين احتياجاتها الأساسية. فلم يعد يوجد مجال للمقاربة بين دخل المواطن وقدرته الشرائية وبين تكاليف احتياجاته الأساسية. فالتكيّف وشدّ أحزمة الفقر وصلا إلى نهاياتهما القصوى. لقد بات المواطن السوري مهدداً بحياته وكرامته.

انهيار الأمن الغدائي

وفي السياق ذاته، أشار رئيس «جمعية حماية المستهلك»، عدنان دخاخني، إلى أنّ الأسرة المكوّنة من خمسة أشخاص تحتاج إلى حوالى 30 ألف ليرة سورية لتأمين حاجاتها الغذائية، بينما دخل الموظف من الدرجة الثانية لا يتجاوز 27 ألف ليرة سورية. وهذا يعني أن الأسرة التي يتجاوز عدد أفرادها الخمسة أشخاص، وتلك التي يقل دخلها الشهري عن 30 ألف ليرة سورية غير قادرة على تأمين حاجاتها الغذائية، أي أنها تعاني من النقص والحرمان والجوع، ومن انهيار أمنها الغذائي. وفي ذات السياق، فقد نشرت منظمة الغذاء العالمية في الأمم المتحدة في تقريرها الأخير، أن أربعة ملايين سوري غير قادرين على تأمين حاجاتهم الغذائية، كذلك يشير إلى تراجع إنتاج القمح من 4،5 ملايين طن عام 2012 إلى 2،4 مليون طن العام الحالي أي بنسبة 40%، في وقت يتم فيه استيراد حوالى 1،5 مليون طن قمح، فيما تراجعت تربية الدواجن بنسبة 50% إضافة إلى انخفاض حاد في عدد رؤوس المواشي.
وتزداد الأزمة الاجتماعية نتيجة دمار البنى الإنتاجية والقطاعات الخدمية. ففي حين يعاني الإنسان ضنك الحياة، فإن الحرب العمياء تساهم في إيقاف عجلة الإنتاج، وتراجع معدل الصادرات بنسبة 97%، وهذا يساهم في انخفاض حجم القطع الأجنبي في الأسواق والمصرف المركزي. وأيضاً يساهم في ارتفاع معدلات البطالة، وانتشار مظاهر الفساد على كافة المستويات والأشكال، وتزامن هذا التراجع مع تهريب حوالى 1500 مصنع إلى تركيا، وانخفاض مستوى إنتاج النفط إلى أقل من 20 ألف برميل يومياً، في وقت تمّ فيه تخريب وتدمير الكثير من الآبار، وسيطرة أطراف غير حكومية على بعضها الآخر وتصدير إنتاجها وفق طرق غير شرعية. وتقدّر خسارة القطاع النفطي بـ4 مليارات دولار. بينما توقفت عوائد السياحة التي كانت تقدر بحوالى 8 مليارات دولار سنوياً. إضافة إلى ذلك فإن حجم خسارة القطاع العام فترة الأزمة الراهنة، بلغ حسب تقديرات وزير الإدارة المحلية ونائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الخدمات عمر غلاونجي 7،5 مليارات دولار. كذلك فقد صرح وزير الصناعة، عدنان السخني، بأنّ خسارة القطاع الصناعي المباشرة وغير المباشرة بلغت حتى نهاية الشهر السادس من عام 2013 ستين مليار ليرة سورية. كذلك فإن تصريح رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية ورئيس غرفة صناعة حلب فارس الشهابي (جريدة «الثورة»، 23/ 4/ 2013) الذي يشير فيه إلى أنّ «الإرهاب ساهم في تخريب 113 ألف منشأة، حصة حلب منها 35 ألفاً»، يؤكد «أننا على عتبة كارثة اقتصادية وبشرية». لكن هذا لا يعني تجاهل سياسات تحرير الاقتصاد التي شكلت وما زالت تهديداً مباشراً للاقتصاد السوري. وفي ذات السياق، فإن فتح الأسواق المحلية أمام السلع الأجنبية ساهم في تعطيل إنتاج آلاف الورش والمنشآت الصغيرة والمتوسطة نتيجة لانخفاض قدرتها التنافسية أمام غزو سلعي خارجي يتميز بكثافة تكنولوجية تُكسبه قدرة تنافسية عالية، إضافة إلى انعدام وجود ضوابط وآليات تحمي الصناعة المحلية وتشتغل على تمكينها وتطويرها.

انعكاسات رصيد البنك المركزي

أيضاً، يجب عدم إغفال الانعكاسات السلبية لانخفاض رصيد البنك المركزي من العملة الأجنبية، والذي تراجع وفقاً للعديد من الدراسات إلى أكثر من النصف، إذ كان حجم القطع الأجنبي قبل الأزمة وفق بعض التقديرات يراوح بين 18 ملياراً و20 مليار دولار، أما الآن فإنه لا يتجاوز وفق بعض التقارير 9 مليارات دولار. وقد صرح حاكم المصرف المركزي أديب ميالة بأن التقارير التي تشير إلى أن احتياطي الدولار في البنك المركزي انخفض إلى 4 مليارات دولار غير صحيحة! إنّ انخفاض احتياطي الدولار في البنك المركزي، ينعكس على حجم الإنفاق العام الجاري والاستثماري، وتمويل حركة الاستيراد.
ومما يضاعف من أزمة القطع الأجنبي: الحصار الاقتصادي الدولي، تباطؤ الإنتاج الصناعي والزراعي والنفطي على نحو حاد، تراجع مستوى الصادرات، وارتفاع حجم الواردات وتحكم فئة من التجار بحركة الاستيراد والمال والأسواق، وتوقف عوائد السياحة، وتراجع حجم ما يرسله المغتربون من القطع الأجنبي إلى ذويهم، وانتعاش ظاهرة المضاربة والتجارة المالية من قبل التجار ورجال المال ومكاتب الصرافة، وهؤلاء لم يكتفوا بتهريب ممتلكاتهم من القطع الأجنبي نتيجة الصراع الدائر (يقدر ما تم تهريبه إلى لبنان فقط بــ11 مليار دولار)، بل يلعبون دور الوسيط بين المصرف المركزي والمستوردين وهذا خطأ فادح في اللحظة الراهنة، ولأن السلعة الوحيدة التي تتعامل معها هذه الشركات هي القطع الأجنبي والليرة السورية، ومهمتها الوحيدة هي تمويل عمليات نقدية، ومن طبيعة هذه الشركات لحظة الأزمة اعتماد المضاربة بالليرة السورية على حساب تمويل حاجات القطر من المستوردات، لذا يجب العمل على إيقاف دور شركات الصرافة في تمويل العمليات التجارية، وتسليم مهمتها إلى المصارف المرخصة. والتوقف عن عمليات المزاد على القطع الأجنبي، للحد من ارتفاع سعر الصرف، خاصة إذا علمنا أن حجم القطع الأجنبي الذي يضخّ في السوق يشكّل نسبة ضئيلة من حاجة الاقتصاد للقطع الأجنبي، بينما حجم الإصدار النقدي لتمويل الإنفاق الحكومي العام أكبر بكثير من مبيعات المزاد للعملة الأجنبية، فضلاً عن أن المزاد يُسهّل تهريب العملة الأجنبية. كذلك يجب فرض رسم تحويل على عمليات شراء القطع الأجنبي لأسباب غير تجارية (الادخار والمضاربة)، وعلى عمليات التحويل الخارجي (باستثناء التحويلات الإنسانية والتعليمية)، من أجل الترشيد في استخدام القطع الأجنبي وعقلنة استعماله، وفرض قيود على حركة رؤوس الأموال والقطع الأجنبي. كذلك فإنه لا يوجد تطابق بين تكاليف الاستيراد الواردة في وثائق الاستيراد والتكاليف الفعلية المقيدة لدى الدول المصدرة لسورية.
وهذا يستدعي تدخلاً سريعاً وفاعلاً للحكومة من أجل ضمان قيمة الليرة الشرائية، ويمكن أن يساهم في هذا ربط الليرة السورية بسلة من العملات والتوقف عن ربطها بالدولار فقط. كذلك يجب ربط السياسات المالية والنقدية للبنك المركزي بالسياسات الكلية للدولة، ذلك في سياق تحجيم استقلالية المصرف المركزي موقتاً وإشراف الحكومة والسلطات التنفيذية على آليات عمل المصرف، وتحديداً بعد تدهور القطاع الإنتاجي، وارتفاع معدلات التضخم.



سلبيات السياسات الضريبية وانهيار المنظومة الأخلاقية

يزداد تدهور مستوى المعيشة لغالبية الأسر السورية نتيجة فرض المزيد من الضرائب المباشرة وغير المباشرة، في وقت لم تزل فيه السياسات الضريبية تحابي المستثمرين والتجار الذين يتحكمون بحياة الإنسان ويتلاعبون بها، وهذا يساهم في تعميق حدة الإفقار وزيادة شدة التناقض الاجتماعي. ورغم اتباع سياسات الإعفاء الضريبي وتخفيض معدلات التكليف الضريبي على المستثمرين وحركة رأس المال، إلا أن هذا لم يساهم في انخفاض التهرب الضريبي، وتحديداً في اللحظة الراهنة.
إن كل العوامل والأسباب التي تعرضنا لها إضافة إلى استمرار الصراع، تساهم في زيادة تعقيد المشهد الاقتصادي والاجتماعي، وتساهم في ارتفاع حدة المعاناة الإنسانية حتى وصلت لدرجة يصعب فيها على المواطن الحفاظ على بقائه البيولوجي. قبل الأزمة كان حوالى 7،4 ملايين شخص يصنفون بين خطي الفقر الأعلى والأدنى، أي بنسبة تتجاوز 35،7%. أما الآن فإن معدلات الفقر تجاوزت كل التوقعات، فقد تجاوزت نسبة من هم دون خط الفقر وعليه عتبة الـ80 % من الشعب السوري، بينما معدلات البطالة تجاوزت تقديرياً عتبة 55% من القوى العاملة. وهذا ينعكس أوتوماتيكياً ودراماتيكياً على معدلات الاستهلاك وعلى شدة الإنتاج المتباطئ والمتراجع، ويدلل على أزمة وكارثة وطنية ومجتمعية تهدّد تماسك المجتمع ووحدته واستقراره وتزيد من إمكانية حصول انفجار اجتماعي.
وتترافق هذه التحولات مع بدايات تحلل اجتماعي نتيجة لعجز المواطن عن التكيف الإيجابي مع الأوضاع الجديدة. وتزيد الأزمة الراهنة وتراجع تأثير المنظومة القيمية والأخلاقية، وأيضاً تراجع دور السلطة القانونية من إمكانية التفكك الأخلاقي والقيمي والاجتماعي. وهذا يتقاطع بداهة مع تعاظم ظاهرة الفساد. لقد بات واضحاً أن تجار الأزمات والمتلاعبين بقوت الشعب يفتقدون أية ضوابط أخلاقية، وهذا يساهم في إغلاق كافة المخارج الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية أمام المواطن الذي لم يعد يفقد سبل العيش الإنساني فقط، بل حتى شعوره بالكرامة بات مهدداً. وهذا يشكّل قمة الكارثة الإنسانية.