رائحة الموت لا تزال تخيّم على شرق ليبيا الذي شهد انطلاقة ثورة 17 شباط عام 2011، فبعد أحداث بنغازي وفيما عاشت مدينة درنة (1300 كيلومتر شرقي العاصمة طرابلس) أمس أجواء حزن على اغتيال العقيد عدنان النويصيري برصاص مسلّحين مجهولين كالعادة، انتقلت عدوى الاغتيال الى مدينة شرقية أخرى هي مدينة مصراتة (210 كيلومترات شرقي طرابلس)، حيث قُتل العقيد عبدالله رفيدة، بعيد صدور حكم بالإعدام على ابن عم العقيد الراحل معمر القذافي، أحمد إبراهيم القذافي.
ولعل هذا الاغتيال هو الأوضح في دلالاته السياسية، إذ عُرفت مصراتة، ثالثة أكبر مدينة ليبية من حيث تعداد السكان بعد العاصمة طرابلس ومدينة بنغازي، بشراسة قتالها ضد قوات العقيد القذافي، الى حد أنها احتفظت بجثته بعد مقتله في تشرين الأول عام 2011.
فالعقيد رفيدة، هو رئيس غرفة في الشرطة العسكرية، وقائد الحراسات التي نقلت الدكتور إبراهيم القذافي من السجن الى المحكمة، حيث تم الحكم عليه بالإعدام أول من أمس. وكون الأخير كان قد شغل عدة مناصب في ظل عهد الجماهيرية، إذ كان أحد أذرع العقيد الشرسة التي أحرقت كتب اللغة الإنكليزية وحرّمت تعليم أي لغة أخرى غير العربية في المدارس والجامعات، فإن حكم الاعدام الذي صدر عليه قد حرّك خلايا القذافي النائمة أو التي لم تنم بعد، للنيل من رفيدة.
في المقابل، كانت مدينة مصراتة على موعد مع اغتيال أحد العاملين السابقين في جهاز الأمن الداخلي إبان حكم القذافي في المدينة، على أيدي ملثمين يستقلون سيارة أمن مموهة.
وفيما سجّل شهر رمضان أعلى نسبة من الاغتيالات ومحاولات الاغتيال في صفوف الضباط العسكريين، كان اغتيال الناشط الحقوقي عبد السلام المسماري الجمعة الماضية (26 تموز 2013)، فصلاً جديداً من فصول التصعيد ضد كل من ينتقد الجماعات الإسلامية أو يدعو لتحجيم حركتها. بيد أن الأمر لم يقتصر على الاغتيالات؛ فالتفجيرات المتنقلة بين العاصمة طرابلس ومدن الشرق الليبي، حيث مهد انتفاضة 17 شباط، تطورت الى مواجهات متفرقة كانت آخرها الاثنين الماضي (29 تموز) بين لواء من الجيش ومجموعة مسلحة في منطقة سرت مسقط رأس العقيد القذافي (200 كيلومتر جنوبي طرابلس)، ما أوقع قتيلين وأربعة جرحى. وبدا واضحاً أن عدم الاستقرار السياسي وعدم قبول كافة شرائح المجتمع الليبي بالسياسات الجديدة، قد أوجد شرخاً بين التشكيلات القبلية والسياسية للشعب الليبي، انعكست على الوضع الأمني بشكل مباشر.
لهذا كان إعلان المؤتمر الوطني الليبي العام (البرلمان) أمس عن تعيين العقيد الركن عبد السلام جادالله يونس العبيدي، في منصب رئيس هيئة أركان الجيش الليبي خلفاً للواء يوسف المنقوش (استقال في بداية تموز الماضي)، محاولة لتعزيز معنويات القوى المسلحة الشرعية في وجه الميليشيات التي باتت تتحكم في مناطق بأكملها وتسيطر على عمل موانئ ومرافق انتاج وتصدير النفط التي أغلقتها أخيراً مثل حقل السدرة ورأس لانوف والبريقة والحريقة، بينما بقي ميناء الزاوية فقط المرفق الوحيد الذي يجري من خلاله تصدير النفط الليبي، الأمر الذي تسبب في نقص الإنتاج إلى 30 في المئة أو أقل.
ثمة دلالة لتعيين العبيدي الذي رقي الى رتبة لواء، إذ يسجّل هذا التعيين إرضاءً لأكبر القبائل الشرقية (العبيدات)، والتي يتحدّر منها قائد الجناح العسكري لقوات الثورة الليبية عبد الفتاح يونس العبيدي، الذي اغتيل في مثل هذه الأيام من العام 2011.
وبدا لافتاً ان تعيين اللواء العبيدي البالغ من العمر (53 عاماً)، في منصب رئاسة هيئة أركان الجيش، يتماشى مع سياسة إنصاف أهالي الشرق الليبي الذين كانوا مُهمّشين في عهد القذافي، ولا يزالون يعانون من سيطرة الميليشيات على الادارات الرسمية في عاصمة الشرق الليبي. فالعبيدي من مواليد بنغازي، كان ضابطاً في القوات الخاصة في الجيش الليبي خلال حكم القذافي، وانضم إلى الثورة 2011، وكان أحد قادة الثوار على جبهة البريقة ضد القوات الموالية للعهد السابق. وعلى ما يبدو أن أزمة الشرق الليبي، لم تنته بعد؛ فثمة تصفية حسابات بين عناصر عانت الاعتقال في زمن القذافي وضباط خدموا في الجيش وبين عناصر سابقة مؤيدة للعهد السابق وضباط أمنيين وقفوا مع الثورة.
ثمة صراع حامٍ على السلطة بين مسلّحين إسلاميين لم يرضوا بنتيجة الانتخابات التي حملت غالبية ليبرالية الى المؤتمر الوطني العام (البرلمان) على حساب الإخوان المسلمين الذين جاؤوا في المرتبة الثانية.
ولعدم تمتع الهضبة الأفريقية (ليبيا) بمجملها بالاستقرار والأمن، أسباب ذاتية تتعلق بتضارب المصالح بين القوى العسكرية والسياسية والقبلية في بلد لا يزال يلملم أشلاء ما صنعته أيدي القذافي وتدخلات دول حلف شمالي الأطلسي، وأسباب موضوعية على علاقة بأزمة الإسلام السياسي في الدولتين المجاورتين لليبيا (تونس ومصر) إضافة الى تمدد الإسلاميين الجهاديين على مدى منطقة الساحل والصحراء الكبرى في أفريقيا وتداعيات الحرب الدولية على «الإرهاب»، حيث تحولت ليبيا الى خزان تسليح العناصر المتطرفة التي قاتلت في شمال مالي ضد القوات الغربية والرسمية.
الخلاصة أن أحداث ليبيا لا يمكن تلخيصها بسبب واحد أو بقضية معينة، نظراً لتشابك المصالح السياسية وتنافرها بين أطياف متعددة، إذ كانت الاغتيالات في وقت سابق من هذا العام تطال مباشرة كل من كان ذا نفوذ في عهد الحكم السابق، بينما اصبحت على علاقة بصراع الاسلاميين والليبراليين العلمانيين.
ولم تكن العاصمة طرابلس في وقت مبكر من عمر العهد الجديد بمنأى عن الأحداث، حيث شهدت اشتباكات مسلحة بين الميليشيات ببعضها وبينها وبين قوى الأمن، بينما أسفر تفجير سيارة مفخخة استهدف السفارة الفرنسية في طرابلس عن جريحين في 23 نيسان الماضي.
وفي بدايات العهد الجديد الذي تلى مرحلة القذافي، حين كان المجلس الوطني الانتقالي برئاسة مصطفى عبد الجليل يسيّر مقاليد الأمور، برزت توترات متنقلة في مناطق بني وليد وسبها وسرت معاقل القذاذفة، بين مؤيدي النظام السابق والقوى الرسمية التي اتُّهِمت بسوء التعامل مع هذه المناطق ومحاسبة أهلها فقط لأنهم ينتمون الى قبيلة الديكتاتور الراحل. كذلك كانت مناطق الجنوب عرضة لتوترات بين القبائل والجيش دفعت السلطة أكثر من مرة لإعلانها منطقة عسكرية.
يبدو في المرحلة الأخيرة أن بنغازي ومدن الشرق دخلت صدارة المشهد الأمني بسلسلة تفجيرات واغتيالات بدأت في 11 أيلول عام 2012 بهجوم استهدف القنصلية الأميركية في المدينة على أيدي متشددين إسلاميين قُتل فيه السفير كريس ستيفنز وثلاثة أميركيين آخرين. ولعل الحدث الأخير كان السبت الماضي، حين فرّ نحو 1117 سجيناً من سجن الكويفية على مشارف مدينة بنغازي.
وفي شهر رمضان الحالي نالت مناطق الشرق الحصة الأكبر من الأعمال الانتقامية التي لم تصبّ جميعها في هدف طرف واحد ولم تتضح تفاصيلها وحيثياتها حتى للمراقبين المتابعين للشأن الليبي. لعل أبرز عمليات الاغتيال هذه، كانت تلك التي استهدفت العقيد عدنان النويصيري، أمس في درنة، وهي مدينة جبلية تقع على ساحل البحر المتوسط في شمال شرق البلاد، وتُعتبر معقلاً للإسلاميين، وتكثر فيها الهجمات على مسؤولي الأمن. كذلك تُعرف درنة في أنحاء المنطقة بأنها مركز تجنيد مهم للمقاتلين المتشددين للمشاركة في الحروب في العراق وأفغانستان وسوريا. لهذا يرى بعض السكان ان استهداف ضباط أمن قد يكون على أيدي سجناء سابقين.
ايضاً من ضحايا درنة، آمر مكتب البحث والانقاذ التابع لرئاسة السلاح الجوي العقيد الطيار فتحي علي العمامي، وضابط متقاعد من جهاز الامن الداخلي في المدينة، حيث قتلا رمياً بالرصاص.
وفي 16 تموز، قال متحدث عسكري إن العقيد فتحي العمامي في القوات الجوية الليبية قُتِل رمياً بالرصاص في مدينة درنة، بينما اغتيل في 25تموز، رئيس مركز شرطة جخرة في مديرية أمن الواحات (480 جنوب بنغازي) والعقيد خطاب الرحيم الزوي، في منطقة الصابري في بنغازي، في ثالث عملية اغتيال تتم في اليوم نفسه في المنطقة، حسبما اعلنت غرفة العمليات الأمنية المشتركة آنذاك. والأسبوع الماضي، انتقلت عدوى تونس الى ليبيا ليصبح الناشطون السياسيون عرضة للاغتيال، حيث قام مجهولون بعد ظهر صلاة الجمعة باغتيال المحامي المسماري في بنغازي.
ودفع هذا الاغتيال مجموعات غاضبة الى القيام بهجمات عفوية على مراكز حزب العدالة والبناء (الجناح السياسي للإخوان المسلمين في ليبيا) بعدما توجهت أصابع اتّهام عديدة الى الجماعة بتنفيذ الاغتيال، لا سيما ان الراحل كان قد تلقى تهديدات من عناصر متشددة قبيل اغتياله. كذلك أصيب العقيد المبروك العبيدي إصابة بليغة في رجله بعدما تعرض لانفجار لغم وضع بسيارته في منطقة «الحدائق» في بنغازي.
وكان قائد المجلس العسكري في برقة، الجناح العسكري لأنصار الفدرالية في شرق ليبيا، أُصيب بالرصاص في محاولة لاغتياله في مهد الانتفاضة ايضاً.
وفي الرابع من تموز، أعلن أحد قادة سلاح الجو في قاعدة بنينة الجوية في بنغازي أن مروحية تحطمت في المدينة، مما اسفر عن مقتل «مقدم وملازم على الفور بينما أصيب احد افراد الطاقم بجروح خطيرة». ومن بين ضحايا الاغتيالات في بنغازي أيضاً العقيد الطيار عقيلة ميلود العبيدي والعقيد في الجيش الليبي عادل البرعصي.
على مستوى المعالجات السياسية لهذه الأزمة الأمنية، يحاول رئيس الحكومة علي زيدان، امتصاص الغضب الجماهيري الذي بات يعبّر عن نفسه بتظاهرات واعتصامات ضد سيطرة الميليشيات في كبرى المدن الليبية، قائلاً إنه سيجري تعديلات على حكومته وسيعيد هيكلة الحكومة بما يتماشى مع الوضع في البلاد عقب هذه الاغتيالات، لكنه عدل عن ذلك أول من امس «حتى لا تحدث خلخلة» على حد قوله، معلناً عن تشكيل «خلية أزمة» لمعالجة الأوضاع.
وكان وزير العدل صلاح الميرغني، قد تحدث في بداية تموز الماضي عن خطط تعدّها الحكومة لحل الميليشيات التي تعج بها طرابلس منذ سقوط القذافي، حيث لا تزال هذه الميليشيات تشكّل صاعق الانفجار الذي يهدد الهضبة الأفريقية.



دبابة للطوارئ

نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية على موقعها الالكتروني أمس تقريراً من العاصمة الليبية طرابلس، تحدث فيه مراسلها كريستيان كاريل، عن الوضع السائد في البلاد في مرحلة ما بعد الديكتاتور معمر القذافي.
وقال مراسل الصحيفة «انه وقت لافت في ليبيا. وصلت قبل أيام قليلة فقط، ولكن اقامتي القصيرة تخللتها اغتيالات، وتفجيرات قنابل، واحتجاجات سياسية غاضبة، وعلى الأقل عملية هرب جماعي واحدة من السجن». وأشار كاريل الى أن الشرطة الليبية أبطلت مفعول قنبلة في سيارة كانت مركونة امام الفندق الذي يقيم فيه في طرابلس، معتبراً أنها كانت «رسالة من إحدى المجموعات المتنوعة في ليبيا والتي تعتبر أن الأجانب لهم تأثير شرير».
ووصف الصحافي الأميركي ما شاهده في ليبيا بأنه ينطبق على مقولة الفيلسوف الاجتماعي توماس هوبز: «حرب الجميع ضد الجميع».
ويشير الى أن أحد الليبيين لا يزال يحتفظ بدبابة «محررة» من قوات الحكومة خلال الثورة في مرأبه «للطوارئ»، كما يقول «فربما تكون هناك حاجة لدبابة».