اللاذقية | لطالما كان التهريب في اللاذقية من المهن الشائعة، إذ له «شيوخ الكار» و«تشبيكاتهم» الكثيرة التي تقوم على تأمين دعم المهربين الصغار من مصادرة ما يأتون به من لبنان أو تركيا لبيعه في أسواق المدينة. لم يترك المهرّب السوري أي نوع من البضائع من دون أن يدخلها إلى البلاد، بدءاً بالأدوات الكهربائية، وصولاً إلى الأدوية والمواد الغذائية، مروراً بالملابس والمنتجات المتوافرة أصلاً في السوق المحلية. لم يهتم المعنيون يوماً بالتشديد التام على منع تهريب بعض المواد التي «تضرب» المنتج السوري في الأسواق، ولا سيّما عندما كانت العلاقات السورية التركية تمرّ بفترة شهر العسل الذي قضى على أعمال الكثير من التجار الصغار. أحد المهربين ترك مهنته وبات يستخدم سيارته لنقل الركاب من بيروت وإليها. يقول منصور: «من سنة وقّفت التهريب بالمرة. حاجة كل هالعالم عم تحاربها لهالدولة. ما ناقصها أنا». ببساطة يعلن الرجل الأربعيني أنه ابن الدولة، وأن ما يهرّبه لم يقصد فيه أن يؤثر سلباً في اقتصادها، حيث حدّد أنه لم يعمل يوماً إلا في تهريب البيرة والسجائر. أما اليوم، فيشير منصور إلى أن التهريب أصبح رائجاً أكثر من السابق، لكن في تهريب البشر والسلاح. «لا تغرّك كثرة حواجز التفتيش. الكثير من السيارات تحتوي على مخابئ سرية لا تلفت نظر العناصر الموجودين على الحواجز، إضافة إلى وجود بعض الفاسدين منهم الذين يمكن إسكاتهم بمبلغ معين». لا ينفي الرجل لجوءه إلى دفع بعض المبالغ الصغيرة حتى الآن كرشى، ورغم أنه يقلّ ركّاباً نظاميين، إن لم يدفع، بحسب تعبيره، فسيعرقلون دخوله على الحدود ويؤخّرونه. لا يحدد من هم الذين سيعرقلونه، أو إن كانت العرقلة من قبل العناصر السوريين أو اللبنانيين، إذ يبدو أنه لا يستثني أحداً. ولا يعترف باشتراكه في تشجيع الرشى عند قبوله بالدفع حتى عندما يكون مروره نظامياً، لكنه يبرر موقفه بالقول: «هل أنا الذي سيصلح الكون؟».
لم يعد تهريب المواد الغذائية أو الأدوات الكهربائية يدرّ ربحاً على المهرّبين، بحسب سائق آخر. فالسوريون منهكون بظروفهم المعيشية السيئة، وارتفاع سعر الدولار جعلهم يعدّون إلى الألف قبل شراء أي من الأغراض المستوردة أو المهرّبة التي تدخل ضمن الكماليات. ويروي زياد: «هُنالك من يبيعون ما لديهم لشراء دواء مفقود من الصيدليات السورية، بعد أن ينهكهم الاتصال بأقارب لهم في دمشق وبقية المحافظات للبحث عنه قبل اللجوء إلى المهربين». تهريب المطلوبين للسلطات السورية، حسب قول زياد، أصبح الأكثر رواجاً وربحاً بالنسبة إلى المهربين رغم مخاطر ذلك.
جورج، سائق يعبر الحدود اللبنانية كل يوم ومهرب سابق، يؤكد لـ«الأخبار» أنّه عمل في تهريب البيرة خلال فترة ما قبل الحرب القائمة، إلا أنه توقف مع وجود كل هذه الحواجز التي تتبع للكثير من الجهات والفروع ويصعب «التشبيك» معها جميعها. ويضيف: «لا أريد أن أدمر نفسي، فالعقوبات التي تمنع التهريب شديدة. ودخول السجن في هذه الظروف قد يعني دخول غياهب النسيان». عمليات التهريب مستمرة إلى حد كبير، بحسب جورج، ورغم الأوضاع الأمنية الصعبة ما زالت الحدود تفتح على مصراعيها مقابل دفع الملايين ثمن سكوت بعض الفاسدين.
لم ينكر أيّ من السائقين الجهد الكبير الذي تبذله الحواجز العسكرية والأمنية من أجل ضبط الحدود والحد من تهريب الأسلحة والمطلوبين. وركّز بعض السائقين على حوادث عدة حصلت على الحدود السورية اللبنانية، تمثلت في إلقاء القبض على عدد من المطلوبين على أيدي عناصر الحواجز الأمنية، بعد كشفهم مخابئ هؤلاء داخل باص سوري لتهريبهم إلى الأراضي اللبنانية. قدرة أمثال هؤلاء الجنود على ضبط الحدود وإحلال النظام على الطرق يقابلها ما يفعله آخرون منهم باستغلال أماكنهم لجني أموال قدر المستطاع، حسب معظم المهربين، بينما طرق التهريب القديمة من لبنان، لا تزال مفتوحة ضمن المدن السورية، والحواجز التي تتخللها لا تشهد ازدحام الطرق النظامية.
التفتيش المبالغ فيه من قبل عناصر بعض الحواجز للداخلين إلى الأراضي السورية يجعل المرء يتساءل: «هل يفتش الجندي عن أغراض ممنوعة أو عن أغراض مستخدمة لأغراض أمنية؟ أم تُراه يبحث عن الاستفزاز؟»، فالبحث في حقائب اليد وترك حقائب السفر يثير الاستغراب. لا مجال لنقاش موضوع تناقضات التفتيش مع عنصر الجمارك أو اللجان الشعبية، إذ إن عدم تحمّلك لأفعاله سيجعل النتيجة غير مرضية بالنسبة إليك.
لحدود اللاذقية الشمالية المشتركة مع تركيا حكايتها أيضاً. يروي أبو هيثم، السائق على طريق كسب: «لدينا أكثر من 500 شاب من اللجان الشعبية الذين ينتمون إلى بلدة كسب يشرفون على وضع الخط الحدودي ويضبطونه بمساعدة الجيش السوري، ولا سيما بعد إغلاق معبر كسب مع تركيا». لكن الرجل يوضح أن حدود كسب وحدها مضبوطة، إذ إن الفلتان الحدودي يبدأ ما بعد كسب على طول الخط الحدودي وصولاً إلى القامشلي، حيث يسيطر على الحدود مسلحون ينتمون إلى مجموعات عدة تختلف تسمياتها ما بين «الجيش الحر» و«النصرة» وكتائب عديدة تنتمي إلى التنظيمين. وعلى تلك المعابر يشتد التهريب من دون أي رادع، بحسب أبي هيثم، على رأسه تهريب البشر. ويضيف قائلاً: «من يخرج عبر الحدود بطريقة غير شرعية، يضطر إلى دخول البلاد مجدداً، إذ لا خيار أمامه إلا العودة بطريقة غير نظامية أيضاً، كي يستطيع الخروج لاحقاً من خلال أوراق ثبوتية وتأشيرة خروج نظامية». هذا ما يجعل تهريب البشر ضرورة ملحّة في المرحلة الحالية، إضافة إلى تهريب المطلوبين خارج البلاد، أو تهريب متطوعين من خارج البلاد لقتال الجيش السوري والانضمام إلى الكتائب الإسلامية، ما يجعل الكثير من الأصوات السورية تطالب بالحزم لضبط الحدود السورية المفتوحة على مصراعيها.
ما زال التهريب في الساحل موجوداً، وإن بدا محدوداً أكثر من السابق، إلا أنك لن تعجز ضمن أسواق المدينة عن الحصول على البضائع المهرّبة إن احتجتَها. فقد بقيت للمهنة، التي لها أسيادها في اللاذقية، هيبتها، حتى وإن تحوّلوا إلى مهن أُخرى خارجة عن القانون على ضوء المستجدات والفوضى القائمة على الأرض السورية.