إخترنا قدر الخزان
ماهر منصور
إلى غسان كنفاني: لم تمت .. نحن من متنا

خزان شاحنة أبو خيزران، ومخيمات الشتات الفلسطيني، كلاهما مغلقان على «رجال في الشمس». أقرع جدران الخزان، لكن لا أحد يجيب..!!
لم تخدعنا يا غسان، لكنك نسيت أن تقول لنا لمن نقرع الخزان؟!
على وجع أقلب صفحات الرواية، ألاحق ظلالنا الفلسطينية المنكوبة فيها، وقد تجاوز عمرها الستين، فألمح بينها ظلال المخيم تولد في ظلالها الآن. كأن التاريخ لا تمضي عقاربه، حين يكون التاريخ عن فلسطين، أهل فلسطين. توجعني نهاية الرواية حين يموت الرجال الثلاثة بلا سبب، فأي موت لفلسطيني لا يدفعنا قيد أنملة تجاه فلسطين، هو موت بلا سبب. كم أخاف/ نخاف الآن، أن أموت/ نموت في المخيم بلا سبب.
ما بين قدر موت رجالك الثلاثة في الخزان، وهاجس أن نموت الآن بلا سبب، أسمعك تقول: «“تسقُطُ الأجسادُ لا الفِكرة”، بي من التشاؤم ما يجعلني أناعتقد أن الفكرة التي لا تموت، هي أن نموت في خزان مغلق.
ادفع بما أوتيت من قوة سوادية التفسير، لكن العالم يضيق العالم علينا يا غسان، يصير المخيم صهريجاً كبيراً، نقرعه ولا أحد يسمعنا...
هل كان قدر الفلسطيني أن يموت في الخزان، مخنوقاً بالخذلان والخيبة..؟!
أحسك تشد على يدي، تهمس في أذني لا تخف، تقول لي: «قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت..إنها قضية الباقين»
كنت أود أن أقول لك يا غسان: «في هذا الحرب..الباقون هم الميتون، وإلا ما معنى أن يصم قرع الخزان الآذان ولا أحد يجيب؟!.. كنت أود أن أقول لك ذلك، لكن اليوم هو الثامن من تموز، واليوم أخذك الانفجار ومضى.
لم تخدعنا يا غسان، كنت تقول لنا أيضاً: «ليس المهم أن يموت أحدنا، المهم أن تستمروا»
لكننا لم نستمر.
كأننا استسهلنا قرع الخزان.. فلم يفكر أحد منا بدفع بابه أو حتى الصراخ والرفض..؟!!
ابتعد عن قدر الخزان، فأعود بصفحات «رجال في الشمس» إلى أوراقها الأولى، عساني أعبر في الحلم، مع رجالك الثلاثة، الحدود نحو الخلاص
و»خلاصنا كان الموت».. هكذا قال لي مخيم اليرموك، يوم قالت لك أم سعد: «خيمة عن خيمة تفرق»، فكيف لخيمة الفدائي، أبنها، أن تشبه خيمة اللاجئين، نحن، ونحن يا غسان استسهلنا الخيام فارتضينا بصهريج أبي الخيزران، وتوهمنا إننا تعلمنا الدرس، وأنه إن ضاق علينا هواء الخزان، فما علينا إلا أن نقرع جدرانه لنعيش..من قال بالأساس أن أبا الخيزران كان ليفضح نفسه ويقف ويفتح الخزان إن سمع طرقات جدرانه..؟
لم تخدعنا يا غسان، لكنك نسيت أن تقول لنا لمن نقرع الخزان، ومتى نقرعه..؟!
لا أعرف لماذا نحفظ عنك اليوم، يا غسان، صرخة أبي الخيزران: «لماذا لم تقرعوا جدران الخزان..؟!» و ننسى في الوقت ذاته، ما تركته لنا في قصاصة ورق للأميرة في حكايتك «القنديل الصغير: “لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة”.
ألم أقل لك إنك لم تخدعنا..؟!
نحن يا غسان من اعتاد تراجيديا الفلسطيني ببعده الأسطوري..فلم نحفظ عنك ما قلته في قصة للأطفال...كنا نبحث عن كل ما يجعلنا نشبه الأساطير وقصائد المديح العالي ونشرات الأخبار ومنابر المنظمة وهتاف الجماهير، كنا نبحث عن قدر ما بعد العبور بالخزان، ونسينا أن ذلك يعني موتنا..موتنا بلا سبب، وكل موت فلسطيني لا يدفعنا قيد أنملة نحو فلسطين، موت بلا سبب.
لم تخدعنا يا غسان.. فقد كنا «مدافعين فاشلين عن القضية»، وخدعناك، فغيرنا القضية يا أبا فايز، وتمسكنا بالمدافعين عنها.
بعدك، وبعد ناجي العلي..اعتدنا المراثي، أحببنا صورتنا الافتراضية على الورق وفي الأغاني، فرحنا نعمل لنشبهها، لا لتشبهنا... بعدك وبعد «الرجال والبنادق»، صار العالم لا يحب الفلسطيني إلا إذا كان في خزان.
لعلها كانت مفارقة المبدع، ألا تكمل روايتك «الرجال والبنادق» كأنك كنت تعرف أننا سنترك البنادق، ونستسهل العيش في خزان، يغلقونه علينا...ثم يتجاهلون طرقاتنا على جدرانه...حتى نموت.
اخترنا الخزان يا غسان...فلم نسمعك تصرخ: «لا تمت قبل أن تكون ندّاً».. وها نحن نموت اليوم بلا ند، ربما لأننا لم ندخل المعركة أصلاً...أو دخلناها خلف جوقة خائنين وثرثارين..وربما لأننا دخلناه واخترنا فيها دور الضحية.
غسان، يا ابن أمي: «أعض عبثــا ًعـلــى أمـــل» كما قلت، ولكنه لا يــريــد أن يبـقى معنا، فقد اخترنا قدر الخزان، وصرخة أبي الخيزران.