فيما يجتاز المسارُ الثوري المصري إحدى أحرجِ مراحله بعودة الجيش إلى الواجهة بعد سنة من شبه الغياب، ومطالبتِه محمد مرسي بالاستقالة «تلبية لمطالب الشعب»، ازداد الحديثُ عن تكرار «السيناريو الجزائري» (أو احتمال تكراره) في مصر». لا داعي إلى سرد كلّ الفروق بين ما يحصل في هذا البلد وما حصل في الجزائر عام 1992 (إلغاء الجيش فوز حزب «جبهة الإنقاذ» الإسلامية بانتخابات كانون الأول 1991 النيابية).
غير أن أهم هذه الفروق يكمن في أن رحيل الرئيس المصري مطلبٌ جماهيري حقيقي، ما لم يكن حال مطلب إلغاء الانتخابات الجزائرية، وأنه ليس تعبيراً عن خوف مجرّد من الإسلاميين، بل كان ردَّ فعل على إخفاقهم الملموس في تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي والأمني وإصلاح القضاء والشرطة والتوفيق بين مكوّنات المجتمع المصري السياسية والطائفية، فضلاً عن سعيهم إلى أخونة الدولة بإيلاء مناصبها الحساسة إلى «الأولى بالمعروف»، أي «الأهل» و«العشيرة».
هل تعني أوجهُ الاختلاف هذه أن ما يجري في مصر لن ينحو أبداً منحى ما جرى في الجزائر بدءاً من 1992؟ بعبارة أخرى، ألا يُحتمل أن تلجأ الحركات الإسلامية الراديكالية المصرية إلى العنف، لا ضدّ قوات الأمن فحسب، بل أيضاً ضدّ خصومها السياسيين؟ هذا الاحتمال وارد لأسباب عديدة، منها أن هذه الحركات لم «تراجع نفسها» كلَّها في ما يتعلق بـ«فقه الجهاد»، وأن كثيراً منها لا يزال يؤمن بالسلاح طريقة للخلاص من «الطاغوت». هذا علاوة على أن حلم «استئصال» تيار الإسلام السياسي من جذوره (وهو ليس حلماً جزائريا خالصاً) قد يُقنع أكثر الإسلاميين تطرفاً باستباق الأحداث على منوال «أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم» ويجذب إليهم العناصر الإخوانيين الذين لا يزالون متأثرين بالخطاب الجهادي.
وهنا يحسن التذكير ببعض تفاصيل ما جرى في الجزائر في مطلع التسعينيات لما قد تتيحه من استشراف لتطور الأحداث في مصر. أوّل عمل عسكري إسلامي منذ تمرّد مصطفى بويعلي في جبال الأطلس البليدي (بين عامي 1982و1987) حدث في أواخر شباط 1991، أي قبل الانتخابات الملغاة بشهر، وتمثّل في هجوم على ثكنة عسكرية في قمار (الجنوب الشرقي) نفذته الحركة الإسلامية المسلحة، وهي تنظيم لا علاقة عضوية له بهذا الحزب، بل إنه كان من خصومه، لأنه لم يكن بؤمن بالعمل السياسي وسيلة «لإقامة دولة الشرع».
كذلك، لا يجوز إغفال أن معظم المجموعات الجهادية الجزائرية توحّدت في عام 1993 في صفوف الجماعة الإسلامية المسلّحة، (التي لم تجعل يوماً «العودة إلى نتائج التصويت» أحد مطالبها)، ولا أن حزب «جبهة الإنقاذ» لم يشكل تنظيمه العسكري الخاص، جيش الإنقاذ الإسلامي، إلا عام 1994، أي بعدما رأى قادته وكوادره يلتحقون بهذا التنظيم التكفيري عن اقتناع أو أملاً في «إصلاحه» (جرت تصفية أكثرهم بتهمة الانحراف عن خطه الجهادي).
كل هذا لا يعني بالضرورة أنه لا دور لإلغاء انتخابات كانون الأول 1991 في استعار أوار العنف في الجزائر؛ فقرار الجيش هذا أظهر التنظيمات الجهادية أمام كثير من كوادر «جبهة الإنقاذ» الإسلامية ومناضليها، كتنظيمات بعيدة النظر لم ترتكب حماقة الثقة بقدرة النظام على احترام «التداول السلمي على السلطة»، وفتح لها باب تجنيد الإنقاذيين على مصراعيه، وقد ساعدها على ذلك الغباوة وانعدام روح المسؤولية، اللذان سيِّر بهما الوضع ابتداء من كانون الثاني 1992، إذ لم يكتف العسكر بإلغاء نتائج التصويت، بل زجّوا بآلاف المناضلين الإسلاميين في المعتقلات الصحراوية دون توجيه أية تهمة إليهم، وأطلقوا العنان لفرق الموت المكلّفة اختطافهم وإعدامهم دون محاكمة، ما جعل الجبال الملجأ الوحيد لمن لم ينجُ منهم بجلده إلى خارج البلاد.
هذه الإدارة الكارثية للوضع هي السبب المباشر لمأساة التسعينيات، لا إلغاء الانتخابات في حدّ ذاته. ويمكن القول، بعد مرور أكثر من عشرين سنة على نسج الخيوط الأولى لهذه المأساة، إنّ تفاديها لم يكن مستحيلاً لو لم يمض «الاستئصاليون» بعيداً في تعنّتهم. هل كانت الجزائر ستفقد عشراتِ الآلاف من أبنائها لو نُظمت انتخابات بدل الانتخابات الملغاة في ظروف تمنع الإسلاميين من ترهيب الناخبين، وسُمح لجبهة الإنقاذ بأن تتشكل بقيادة جديدة لا مكان فيها للداعين إلى الجهاد، ولم يعتقل الآلاف من أعضائها لا لجريمة سوى عضويتهم فيها؟
هذا الجزء من «السيناريو الجزائري» هو ما لا يجوز أن يتكرّر اليوم في مصر، وخصوصاً أن الرفض الشعبي للحكم الإخواني على ما هو عليه من الجماهيرية. وهو لن يتكرّر إذا كبحت الحركة الشعبية المناهضة لمحمد مرسي والإخوان جماح «استئصالييها»، ممن يحلمون بإعادة الإسلاميين إلى السجون لا بهزمهم في سباق ديموقراطي تحظر قواعده قمع المعارضين بغير القانون كما تحظر الاستغلال السياسي للدين وادّعاء تحويم الملائكة فوق اعتصام رابعة العدوية واختراق إبليس اللعين صفوف متظاهري التحرير.