دمشق | أسدل صيف عام 2012 على الحراك السلمي في دمشق آخر أشكاله. جاءت «معركة دمشق» في منتصف تموز من نفس العام كضربة قاضية لواحد من أكبر الأحياء الدمشقية، وأكثرها مدنيّة وتماساً بين الأحياء القديمة والحديثة. حيّ الميدان الواصل بين الجنوب الساخن من جهة القدم _ القاعة _ شارع 30 _ الزاهرة القديمة حتى مشارف منطقة التضامن من جهة، والوسط المتوتر إلى داخل الأماكن الحساسة للسلطة وسط المدينة من جهة أخرى، لا يبدو ساحة معركة مقبلة. فالقوى التي تجعله محمياً من الصراع هي جسر المتحلق الجنوبي، الذي يفصل بين «الميدان الجواني» و«الميدان البراني»، ويطل على معظم المناطق المحيطة. هذا الجسر الذي كثيراً ما تتعرض عبره التعزيزات العسكرية للجيش السوري لاستهداف من نقاط الريف على مشارف داريا، وفي الإطلالة الضيقة للتضامن من قبل عناصر المعارضة المسلحة، مشت تحته تظاهرة ضخمة في منتصف نيسان عام 2011، كانت عفوية بامتياز. لم تحسب السلطة حينها حساباً لتفاقمها. انطلقت من منطقة المنصور الواصلة بين حي المجتهد باتجاه عمق الميدان حتى جامع زين العابدين، لكن، فيما بعد تغيرت ملامح المنطقة وأصبح حيّ الميدان خطراً لا يمكن تركه للعفوية.
اليوم اختلفت معادلة المنطقة تماماً، وأصبحت الملاحقات تزداد في الآونة الأخيرة ضد الناشطين، الذين أمنوا دخول عناصر «الجيش الحر» إلى قلب حيّ أبو حبل، حيث السوق التجاري الشهير الذي شهد مواجهات في أوخر تموز 2012، قبل أن يعود خلال أيام إلى قبضة الدولة.
بعد ذلك انتشرت الحواجز الأمنية بكثافة على المفارق الرئيسية للحيّ، وخصوصاً من جهة الزاهرة والقدم ومدخل الكورنيش قرب جامع الحسن. هذا الأخير الذي كان أكثر الأماكن احتضاناً للتظاهرات قبل اندحارها، جرى فيه تشييع شهداء تفجيرات الميدان الإرهابية، التي دلّت على اختراق أمني كبير دفع السلطات السورية إلى وضع التعزيزات وتثبيت وجودها وانتشار عناصرها بقوة. هكذا، يروي محي الدين، أحد سكان المنطقة، لـ«الأخبار» عن «خطف جامع الحسن من المعارضين، وتحويله إلى صراط مستقيم بلا تظاهرات. يوم الجمعة ينقّب الأمن عن المطلوبين على باب الجامع من خلال الهويات والصور...». من شباك بيته المطلّ على الجامع كان محي الدين، الشاب الثلاثيني، يشاهد كيف يجري تطويق المكان والدخول لفض التظاهرات، أمّا اليوم «فصرنا نشاهد تظاهرات صامتة لزحام السيارات الواقفة على مدخل كورنيش الميدان، التي يصل طول اصطفافها إلى مئات الأمتار». رغم توقف حالة التظاهر نهائياً، فإن وجود السلطة على هذا النحو هنا يطمئن معظم الناس، كما يطمئن مقر جريدة «تشرين» الحكومية التي تقع في كورنيش الميدان، حيث عدها المعارضون آنذاك «بوقاً للنظام» فتعاملوا مع موظفيها على هذا الأساس». «خلال تظاهرات منتصف عام 2011، رفع بعض المتظاهرين الأحذية بوجه العاملين في الصحيفة من جهة النوافذ المطلة على جامع الحسن»، يروي أحد العاملين في الجريدة، بينما يعلق موظف آخر «لأنهم لم يجدوا في خطابها حول تحركهم الشعبي إلا انكاراً لمطالبهم وتشويهاً له قبل أن يتبلور».
اليوم يمكنك أن تنزل من الباص منذ دخولك إلى حيّ الميدان وأن تكمل مشياً، وذلك بسب إغلاق أغلب الطرق في محيط المخفر، بداية بشارع أبو حبل، ومحيط جامع زين العابدين. وتبدو السواتر الإسمنتية هنا أكثر اطمئناناً من سواتر طرق المربعات الأمنية، فالمنطقة مكتظة بالسكان والتنظيم العمراني ملفت ومعاصر. أبراج وعمارات تدل على مدنيّة المكان وتنوعه الاجتماعي. على عكس ما يشاع عن أن «الحراك أساساً جاء من الأرياف بسبب التخلف والفقر والتهميش»، كما يقول البعض، هنا في حيّ الميدان الحال مختلف لأن «الإسلام الوسطي، المعتدل، يتعاطى مع الجميع حسب عادات المعاملة واحترام الآخر. لا يعيش الناس هنا قطيعة مع من لا يقيمون الصلاة، ولا يمكن أن تشاهد تعصباً دينياً على مستوى النقاش والثياب والأفكار، لأن الميادنة يهتمون بالسمعة الداخلية للعائلة وبتأمين المال، ولا يحتكون كثيراً مع الجوار»، يقول أبو أنس صاحب أحد المحال في سوق الجزماتية الشهير، حيث صلّى الرئيس السوري بشار الأسد قبل أعوام في جامع «مازي»، واستقبله الجميع بالأحضان وقدموا إليه الحلوى الميدانية الشهيرة.
المفارقة اليوم أن الناس هنا لا مشكلة لديهم مع شخص الرئيس. إلى وقت قريب، كانوا يتفاءلون بوجود رجل منفتح على الثقافة والتغيير والإصلاح، لكنهم صعقوا من رد الفعل الذي قوبلوا به حين لفحتهم رياح «الربيع العربي»، التي كشفت عن هشاشة المجتمع ثقافياً، وأعادته إلى التفتيت العنصري. وعن هذه المسألة، يشير نضال قاسم (اسم مستعار)، إلى أنّ «الأهالي غير هون، سكان الميدان، ما فيها بس ميادنة، فيها من كل الملل والمناطق. في شي بالأرياف المتعصبة خلاهم يطردوا كل حدا مو سنّي. بس وباء العنف لفّ الحيّ بالتهميش وخلّى أهله يا دوب يهتموا بأمانهم ولقمة عيشهم، خوفاً من الطائفية». الرجل الأربعيني ما زال يتجول في الحارات القديمة للميدان، حيث يبيع الفاكهة الموسمية، وخصوصاً في الأحياء القريبة من القاعة، حيث تقع ساحة «السخانة» التي شهدت تظاهرت كثيرة قبل أن تفضّها السلطات إبّان «معركة دمشق»، حيث تحصّن العناصر المسلحون في أول ظهور واسع ومباشر لهم في العاصمة.
لم تبقَ ساحة «السخانة» وغيرها من المناطق التابعة للحيّ على حالها، انتهت الفوضى، وعادت جميعها إلى حضن الدولة، ببعض الخسائر العمرانية، وتحت وصاية القانون. بقيت منطقة القاعة هي الأخطر، ربما، فأبراجها تطلّ على مخيم اليرموك وشارع الـ30 ومناطق ساخنة أخرى في جنوب العاصمة. تحصّن الجيش هناك في محيط القاعة لتكون جبهة القتال ممتدة من هناك، «بتقدر تشوف عناصر الجيش بس ممنوع التصوير والاقتراب خوفاً من قناصات جبهة النصرة يلي بتلقط من بعد ألف متر أي مدني أو عسكري»، يؤكد يوسف، سائق سيارة أجرة، على خط الزاهرة القديمة، الذي كان من المفترض أن يكمل طريقه إلى ساحة البطيخة، لكن الخطر محدق هناك بالمدنيين، فتتوقف سيارته على بعد عشرات الأمتار منها، ليكمل الناس طريقهم على مسؤوليتهم.
في وقت تسمع فيه أصوات الاشباكات الناتجة عن توغل عناصر الجيش السوري في جيوب المناطق الساخنة في الجنوب، من ناحية المخيّم وضواحيه. هنا ينصح ماهر، الذي يعمل في صيانة الكهرباء، «بعدم الوقوف طويلاً في محيط القاعة». نغيّر الاتجاه نحو ما بقي من البيوت القديمة التي يزيد عمرها على مئة وخمسين سنة، فتظهر آثار «البخّ» على الجدران، منها محطمة وأخرى ما زالت صامدة. نقرأ عبارات من نوع «حرية للأبد... قائدنا للأبد سيدنا محمّد». الناس هنا لا يعانون لعنة قذائف الهاون «بسبب قلة وجود المراكز الحيوية التابعة للدولة، التي كثيراً ما يحاول العناصر المسلحون استهدافها»، يضيف ماهر.
من يتذكر الميدان قبل عام يدخل إليه اليوم كأنه يزور منطقة تروّض من جديد. «كل سرافيس الميدان الطالعة من ساحة البوابة والمتجهة لداخل دمشق، يفتّش ركابها. لأنو كلمة ميدان كفيلة تخلي كل الحواجز يدققوا بهويات الركاب، مشان يلي كانوا يطلعوا بالمظاهرات»، يقول أحد الطلاب الجامعيين، الذي ينتظر تخرجه بفارغ الصبر كي يهاجر خارج البلاد.
صورة الأزمة السورية في شوارع الميدان تعكسها حالة الخوف المنتشر ليلاً. لا أضواء تسطع سوى من بعض نوافذ المنازل، ودوريات الأمن تتجول باستمرار. المنطقة هي الأخطر على الإطلاق، هناك حرص حكومي على عدم تعرضها لأيّ صراع، لأنّ نصف دمشق تقريباً متعلق باستقرار حيّ الميدان. وعلى ما يبدو «كل المؤشرات تدلّ على أنّ الحالة مستمرة، وصرعة السياسة رح تخلينا نرجع سنوات للوراء»، يروي أحد «المؤيدين»، رافضاًَ ذكر اسمه.