دمشق | لم تتوقف للحظة واحدة حملات السخرية الالكترونية على طرائف وإبداعات محللي الأزمة السورية والمعلقين عليها منذ تظاهرات الميدان التي رأى أحد معدي قناة الإخبارية السورية أن تحليلها بسيط يتمثل في أن الناس نزلت إلى الشوارع لتشكر الله على نزول المطر، مروراً بأستاذ القانون الدولي د. فؤاد خليل، الذي أخرج عظمة حمار في استديو الفضائية السورية ليحدّد نَسب مقاتلي المعارضة إليها، وليس انتهاءً ــ على ما يبدو ــ بالتصريح الناري منذ فترة لأحمد شلاش، عضو مجلس الشعب السوري، على قناة «الميادين» بأنّ على العالم ألا يستغرب أن السوريين وتحت قيادة (الرئيس السوري بشار) الأسد سيصلون «لآخر ما عمّر الله، وربما يفتحون الأندلس»!
وعلى التوازي من ذلك، لدينا «نهفات» (الشيخ؟) عدنان العرعور بسيفه ووقفته الشهيرة، والرجل الغاضب أبداً جورج صبرا «سوبر مان» المعارضة السورية، حسب وصف معارضين لتعدد المناصب التي يشغلها، ولقدرته على تبرير كل «أخطاء» المعارضة. ورضوان زيادة «الصورة المتحركة»، أيضاً حسب وصف معارضين لتعابيره الجامدة والتي تأخذ نفس الشكل أياً كان ما يقوله، وشاعرية مأمون حلاق «الكلاسيكية» التي يتابع من خلالها إنتاج برنامجه الأثري «إبن البلد» بطريقة التحليل المبسطة وشديدة العمومية نفسها، ولكن من موقع المعارضة هذه المرة. والعديد من الأمثلة الأخرى التي تصلح مادة غنية لتزجية أوقات الاشتباكات.

خلل بنيوي

أظهرت السنة الفائتة أنّ «انخفاض» مستوى السواد الأعظم من المحللين السياسيين السوريين، ليس مجرد مجموعة من الحوادث الفردية، ولكنه ظاهرة عامة تستحق الدراسة.
يعكس «الانخفاض» المشار إليه ــ والانخفاض هنا للتخفيف والتلطيف! ــ واقع مجتمع لم يتعاطَ السياسة منذ أيام عبد الناصر الذي حظر الأحزاب أيام الوحدة بين سوريا ومصر (1958 ــ 1961)، ليرسّخ واقعاً لم يغيّره الذين أتوا بعده.
ومن جهة أخرى، فإنه يعكس خللاً بنيوياً عميقاً، ليس في المجتمع فحسب، وإنما قبل ذلك وبعده في النظام السياسي القائم وفي «معارضته». وننسب المعارضة إلى النظام لأن الطرح العميق لكل منهما في عدد من القضايا الأساسية، لا يكاد يختلف أبداً.
إنّ الخلل البنيوي يتمظهر واضحاً في نمط الخطاب الحقوقي الديموقراطي العام، ففي الأزمة السورية لكي يقنعك حديث «المحللين»، فإن عليك أن ترى نظاماً شيطانياً ومعارضة ملائكية أو العكس، مع أن حدود الرؤية هذه أضيق بكثير من أن تفسر واقع الحال، ومن أن تفسر ما يراه ويعيشه السوريون يوماً بيوم ومأساة تلو أخرى.

مؤامرة

إن التسليم الأوليّ بأن المحللين الذين يحاولون فرض ثنائية «نظام ــ معارضة» من منطق «أبيض ــ أسود»، هم من البساطة ومن السذاجة بدرجة تجعلهم يقولون الأمور كما يفهمونها، ربما يفسر جزءاً من الحالات الفردية، لكنه لا يفسر هذه الظاهرة. وإن أدخلنا في معالجتنا تأثير وسياسة وسائل الإعلام المختلفة و«تنميطها» للأحداث، فربما نقترب خطوة أخرى من فهم جوهر الظاهرة، لكن مع ذلك لا نزال بعيدين.
ولعل فهماً أعمق يحتاج إلى العودة إلى أبجديات العمل السياسي بعيداً عن الضغط على مشاعر المتلقي بسيول الدم. تضيء لنا وقفة متأنية أنّ الاختلاف الحقيقي بين الكتل والآراء السياسية ينبع من ثلاثة أماكن أساسية هي الموقف من القضية الاقتصادية ــ المعيشية، والموقف من الديموقرطية والحريات السياسية، والموقف من واشنطن و«إسرائيل» والغرب عموماً. وعند إعادة ترتيب اللوحة السياسية السورية وفقاً لهذه القضايا الثلاث فإن تغيرات مدهشة ستظهر، ليس أقلها أن جزءاً من جهاز الدولة سيغدو حليفاً مصيرياً لجزء من المعارضة نتيجة اتفاقهم الضمني على العديد من تفاصيل هذه القضايا، وبالتالي ــ وهنا يبدأ تفسير «التحليل السطحي للمحلين» ــ السكوت عن إعلان المواقف الحقيقية، والاكتفاء بالحديث ذي الطابع «النّواح» الحقوقي والإنساني لإخفاء «المؤامرة» الحقيقية التي تحاك ضد شعب كامل مقسم بين معارضة وموالاة.
نذكر مثالاً مباشراً على التوافق الضمني، على اصطلاح «المكونات» و«الأقليات» وحمايتها الذي يستخدمه الطرفان على حد سواء باعتبار هذه المسألة جوهرية وأساسية، الأمر الذي يقود في نهاية المطاف إلى تحاصص محدد بين «أمراء الحرب» المتسترين بعباءات الموالاة والمعارضة. ومثال آخر، هو الاتفاق الضمني بين «الأمراء» أنفسهم على لبرلة الاقتصاد السوري وربطه بالغرب (العدو ــ الصديق) في آن معاً!

أدوات إضافية

يساعد «التحليل السطحي» على المضي قدماً، مجموعة من الأدوات التي يستخدمها الإعلام، لعل أخطرها هو فرض «المفاهيم» والكلمات التي تشكل بمجموعها منظومة التفكير. فحسب أنطونيو غرامشي، المفكر الإيطالي الشهير،: «ليس مهماً أن تراقب تفكير العدو، فقط أعطه الكلمات التي يفكر بها، وسيصل إلى حيث تريد».
تستخدم مثلاً بعض الوسائل الإعلامية تعبير «المعارضة المسلحة» في مقابل تعبير «الجيش الحر» الذي تستخدمه وسائل أخرى. والفرق بين الاصطلاحين كبير في نتائجه، مع أنه في تقويمه الأولي اختلاف بسيط، إن تعبير «المعارضة المسلحة» يترك حيزاً ما وهامشاً ما لمعارضة غير مسلحة، ويجعل من نهج التسلح أحد نهجين، ولا يحسم الأمور نظرياً لمصلحة التسلح، في حين أن اصطلاح «الجيش الحر» يتضمن حكم قيمة هو «حر» ويجعل الجيش الآخر غير حر، وبالتالي يستخدم وصف مدح مقابل وصف ذم، ويسبغ المدح والقبول على التسلح نفسه، ويجعل غير المسلح نافلاً بل وضاراً. ومن جهة أخرى، فإن وصفه بالجيش يجعل منه حالةً مكتملة الوجود والشرعية، ويسمح بالتالي ببناء أفكار من نوع «اسقاط النظام» عسكرياً، والمعلوم أن «الجيش الحر» يقاتل كميليشيا بالمعنى العسكري، ومصدر قوته بالذات هي طريقة قتاله هذه. وحين يصبح بناء التصورات السياسية منطلقاً من «واقع» وجود جيشين في بلد واحد فإن التتمة المنطقية هي اندحار أحدهما، وهذا ما يؤدي إلى استعصاء واستنزاف مستمر ربما يودي بسوريا كلها.