القصير | كثرة الغبار تكاد تعمي العيون في اليوم الصيفي المتقلّب. غاضبة سماء القصير وشمسها قاسية. تتخيّل الغبار محملاً ببقايا دماء من سقط على هذه الأرض من الطرفين المتقاتلين، إنما لا يمكن نسيان السؤال الدائم عن المدنيين. عمال البلدية مشغولون بتنظيف شوارع المدينة. ورئيسة البلدية شذا مراد تريد لفت النظر إلى تركيب أعمدة كهرباء إنارة جديدة وسط المدنية، فيما يعترض أحد المواطنين العائدين أمام محافظ حمص أحمد محمد، الذي يزور المدينة مع الوفود العربية على هامش مؤتمر الشباب القوميين العرب، على عدم إمداده بالمياه اللازمة لبيته. يعرى هذا الرجل العجوز أنّ العودة كانت ضرورية بعد فترة نزوح قضاها مع عائلته في دمشق، مؤكداً أنه غادر المدينة مع سقوط مبنى البلدية في يد المعارضة المسلحة. ويصرّ على العودة رغم كل الصعوبات التي تواجه هذا الخيار، لافتاً إلى أن الكهرباء والماء قد عادتا إلى المدينة تدريجياً. 15 عائلة عادت إلى الحي الذي يقطنه، فيما لم تعد الحياة بعد إلى الأحياء التي شهدت خراباً بنسبة 80%. وهي التي دارت فيها المعارك الأخيرة. ويرجّح الرجل أن توقّف عودة المدنيين بعد اليوم الثالث، كان بسبب انفجار عبوة ناسفة أصابت أحد عمال التنظيفات، ما جعل الدولة تمنع المدنيين من العودة ريثما تجري مسحاً شاملاً لجميع المباني، بهدف تنظيفها من مخلّفات المرحلة السابقة. رجل آخر ذكر أنه ترك الحيّ قبل سيطرة مسلحي المعارضة على المدينة بأيام، خشية الذبح، طالباً ملاحظة ما حلّ بالكنيسة المواجهة والتي كُتبت عليها عبارات تتوعّد المسيحيين بـ«انتصار دين سيدنا محمد»، كتبت إلى جانب الأيقونات المخرّبة والمحروقة. الكنيسة التي نالت حصتها من القذائف تحكي مأساة مسيحيي القصير الذين كانوا أول من لبى نداء العودة وعاد. امرأة عجوز تقود دراجة نارية، تجلس خلفها امرأة أكبر سناً تمضي في طريقها إلى منزلها. مشهد، ربما لن تنساه إذ لن تراه إلا في الريف الفرنسي، حيث لا حروب ولا عقد الشرق وأزماته. أما على باب المسجد فتلفت ملاحظتك ملصقات خلّفتها «جبهة النصرة»، والتي تقول إحداها: «أخي المجاهد... ما أجمل ثغرك من دون سيجارة». المدنيون في القصير يشغلهم ملف إعادة الإعمار، لأنهم المعنيون الأوائل بنتائج ذلك. ويتمنون العمل بسرعة من أجل إعادة الحياة إلى المدينة المنكوبة. ويلفت أحدهم إلى أنّ لا خوف عليهم من عودة المسلحين، فحياة جنود الجيش ليست أقل أهمية من حياتهم، ولن تكون يوماً.
لا يزال السير في شوارع القصير له هيبته، بدءاً بحيّها الغربي وصولاً إلى الشمالي والخروج من الشرقي للوصول إلى ساحة الساعة. المرة الأولى في القصير دون خوذة أو درع، ودون الكثير من المظاهر المسلّحة ووسائل الحماية. أصوات الرصاص والانفجارات غير مفتقدة حتماً، ولكن آثارها النفسية تترك الارتباك على كل خطوة يخطوها المرء في المكان، خشية التعثر بعبوة من مخلّفات المعركة الماضية. لا يمكن إغفال حالة الترقب بين المباني والبيوت. تفتش هُنا عن وجوه المقاتلين الذين كانوا يحاربون على الخط الأمامي. الزوار يتبادلون الصور التذكارية والابتسامات. يفاجأون بحجم الخراب والدمار الذي لحق بجامع عمر بن الخطاب وكنيسة مار الياس وسط المدينة، والذي رأوه عبر الشاشات، إنما رهبة الوقوف أمامه بشكل شخصي تجربة لا تنسى بالنسبة إليهم. تصدمهم آثار قذائف نزلت هُنا أو رصاص خرق جداراً هناك. علم فلسطين يعني الكثير لمن يرفعه من ممثلي الوفود على ساعة القصير، فيهلل الموجودون وتتراكض الكاميرات للتصوير. الساعة التي شهدت تناوب رفع الكثير من الأعلام أصبحت معلَماً هاماً للصور التذكارية. لم يمضِ شهرٌ على استعادة القصير إلى حضن الدولة، إنما يبدو الأمر كما لو أن دهراً مرّ على تلك اللحظات التي أضحت بسرعة ذكريات لا أكثر. المقاتلون غادروا ساحة المعركة، تاركين رفاق سلاح لهم على حواجز تثبيت عند المفاصل الرئيسية في المدينة. وجوه جديدة استلمت حراسة المكان منعاً من المفاجآت، فيما انصرف المحاربون الأوائل للقتال على محاور أُخرى.
محافظ حمص، أكّد في تصريح لـ«الأخبار» أنّ لا جدول زمنياً حتى الآن في ما يخص إعادة الإعمار النهائي، إنما قامت المحافظة بواجبها بناء على خطط إسعافية تهدف إلى إعادة تنظيم المخطط التنظيمي لمدينة القصير وتأمين الخدمات تدريجياً كالكهرباء والماء وخطوط الهاتف ووضع برنامج للإغاثة. بالإضافة إلى تسجيل أسماء المواطنين من أصحاب العقارات المتضررة لتقويم حجم الأضرار والتعويض عليهم. 100 ألف ليرة سورية رصدتها الدولة من قيمة الأضرار، بحسب محافظ حمص، لكل منزل إلى حين تقدّر الكمية الكاملة للخسائر للتعويض النهائي على المواطنين. وتوقع استئناف عودة المدنيين مع بداية الأسبوع المقبل. ويعتبر المحافظ أنّ الكلام عن جنسيات شركات الاستثمار سابق لأوانه إذ إن الدولة لم تبتّ هذا الملف حتى الآن، نافياً الكلام عن حجز أماكن على خارطة إعادة الإعمار لشركات إماراتية أو روسية. وقارن المحافظ بين نموذج الحرب الصعبة في القصير والأعمال العسكرية للجيش السوري، ونموذج المصالحة الوطنية في تلكلخ التي حقنت الدماء وصانت الممتلكات، حيث نزح أهالي القصير منذ أكثر من سنة ولم يكن أي مجال للقيام بمصالحة أو تشبيك اجتماعي. كما دافع عن فكرة عقد المؤتمر المنعقد حالياً في هذه الظروف، لضرورة التأكيد على عروبة سوريا، رافضاً الحديث عن نبذ فكرة العروبة من قبل بعض السوريين، إذ وصف بعضهم بالمجروحين من تدخل بعض الأنظمة العربية سلباً في الداخل السوري، وبعضهم الآخر بالمأجورين.