الخمسمئة حلم

«غنوة» (22 عاماً من مدينة حلب تعيش في دمشق) حزينة ومتوترة، وإذا ما انفجرت غاضبة، فلا بد أنها تستعين على الغضب بتكسير أواني المطبخ، ومن ثم تجهش ببكاء حادّ لا بد بعده من أن تلجأ الى أحد ما، أيّ أحد يمكنها أن تستوقفه لتقول له: «بتنا نشحذ ورقة الخمسمئة ليرة».
عل الأقل هذا ما قالته لزهراء، اللاجئة العراقية، الهاربة من حرب العراق، تلك المعاندة التي لم يسعفها حظها باللجوء إلى الولايات المتحدة حيث تقيم أسرتها.
تأخذنا زهراء الى غنوة، فكلتاهما ضحية الحرب، وهما جارتان في السكن، الأولى قتل زوجها وشردت عائلتها، والثانية قطعت الحرب رزقها، وها هي غنوة تقول: «كل زبائننا من الطفرانين، من جماعة صاروا على باب الله».
كيف؟ تقول غنوة: «الليرة السورية هبطت الى الحضيض، ومن معه ليرة سيخبئها ليومه الأسود»، ثم تستدرك: «وكأن يومهم الأسود لم يأت بعد؟ أيديهم تيبس في جيوبهم حين أفكّر في فتح زجاجة ويسكي لهم».
عملها بحسب ما تقول هو «مجالسة الزبائن»

عائدات الشغل أقل من مستلزمات الانتاج

غنوة تعمل في واحد من الأندية الليلية، وبما أن المهن أسرار فلن تبوح باسم مكان شغلها إلا بعد وقت سيبدو لنا وقتاً طويلاً، فهي تشتغل في نادٍ في منطقة باب توما، أما شغلها فهو بحسب ما تقول «مجالسة الزبائن»، ولكي تقوم بواجبها المهني عليها أن تكون مرحة، وسعيدة، وأن تنقل الفرح إلى قلب رجل يجالسها، كما عليها أن تتحمل حماقات تطلعاته الجسدية التي يدّخرها ربما من ألف عام، ومن متطلبات المهنة، الماكياجات، الاكسسوارات، الملابس الفاتنة، وكلها (عدّة الشغل) أو كما يقول الاقتصاديون مستلزمات الانتاج، هي تدرك ذلك، غير أنها تدرك أيضاً أن كل ما يعود إليها من شغلها لا يعيد إليها شيئاً من رأسمالها، فالزبائن قليلون، والبنات كثيرات، والسياح انقطعوا عن زيارة البلاد. فهذا النوع من الأعمال يتطلب سائحا خليجيا، أو سائحا من الداخل، الأول اتجه الى بلاد أخرى كتركيا مثلاً، والثاني تحوّل من سائح الى متشرد بعدما حطّمت الحرب حياته وبيته وموطنه، أما من بقي من الطبقة المترفة التي تبحث عن تبديد الوقت، فلم يعد بوسعه المخاطرة والانتقال الى أماكن السهر.

من أندية ليلية الى «بلوكوسات» للمقاتلين

أماكن السهر؟ حسناً. تحكي لنا غنوة عن منطقة التل، هناك، حيث انتشرت عشرات الأندية الليلية وقد كانت ملاذاً لهذا النوع من البشر، وها هي اليوم منطقة مطوقة بالسلاح والعصابات، ولا بد أن الأندية الليلية فيها قد تحوّلت الى متاريس للمقاتلين.
أما الأندية الليلية في منطقة الربوة، فقد باتت فقيرة وعلى كف العفريت.
لقد انتهى زمن البنت الجليسة التي تصاحب الزبون طيلة ساعات تنتهي حال أن يغلق النادي أبوابه، وغنوة تذكرنا بأن الفارق واسع ما بين الجليسة والعاهرة، فالأولى تبيع كامل جسدها والثانية تبيع «مكر الجسد»، وعلى غنوة أن تغيّر مهنتها، فتتحول من ماكرة الى بائعة وهذا ما لا طاقة لها عليه، فهي تقسم أنها لم تمنح جسدها ولو لمرة واحدة في حياتها لزبون، كل ما تمنحه «الضحك على لحية الزبون».
حاولت التوبة وقرأت إعلاناً يقول: مطلوب بنات لورشة خياطة

... وكذلك النجّار والمعماري مثلنا

«مهنتنا ككل المهن» تقول غنوة... جرفتها الحرب، وأبخست من قيمتها، فلا النجار يعمل ولا الحدّاد يعمل ولا المعماري يعمل، المهندسون باتوا بلا شغل، وحدكم الصحافيون تعملون، ثم تستدرك: «الدفّانون هم الذين يعملون اليوم»، ومع تداعياتها تحكي غنوة حكاية قصيرة، ربما تبعث على الضحك لمن شاء أن يضحك، فقد عاد الى النادي واحد من الزبائن من ذوي الشأن بعد غياب طال، وحين جاءت لمجالسته وقالت له «يا بيك» التفت إليها وقال: «في جيبي ألفان ومائتا ليرة، لا أريد مشروباً، أريد أن تقولي لي يا بيك بهذا المبلغ».
لم تفهم غنوة حتى اللحظة ماذا تعني هذه الصفقة، ولكنها حزينة على زبونها هذا، فقد كان من الرجال المهذبين الذين يجالسون بنات النادي بعيونهم لا بأصابعهم، كان رجلا مهفهفا بحسب ما تصفه. وكان يحلو له أن يستمع الى ما تقوله بنات النادي من هذيانات، وكانت غنوة تشرب هي كل ما تطلبه للبيك، دون أن تمتد يده الى كأسه بحسب ما تقول.
ما الذي جاء بك إلينا بعد طول الغياب؟ سألته.
«جئت لتقولي لي يا بيك»، أجابها، ثم وضع نقوده في راحة يد غنوة وانصرف.

الموت ولا المذلة

كل شيء بات مدمراً أو قابلاً للدمار، هذا حال عاصمة التاريخ، دمشق، مدينة المسجد، والرصيف، والنادي الليلي، مدينة الصومعة الى جانب الكاباريه، والسوق إلى جانب الحمّام. غير أنها اليوم باتت حديقة واسعة للمتشردين، حيث الحدائق باتت فنادق مكشوفة على الصقيع، وحيث بنات «مستورات» بتن ذبيحات اللقمة، فزيارة سريعة الى حديقة حيّ الزاهرة تقول لك، إن عشرات البنات الصغيرات اللواتي لا يتجاوزن السادسة عشرة من العمر بتن معروضات للاستئجار، نعم هو الحال كذلك، والأجرة باللقمة، ومن وراء البحار نسمع من يصرخ: الموت ولا المذلّة.
أيّ مذلة أكثر قسوة مما وصلت إليه مدينة كانت تعيش قبل الحرب؟ أيّ ثرثرات مقزّزة يطلقها نشطاء الفيس بوك؟
في عودة إلى «غنوة»، سنسمع منها المزيد والمزيد، فالكثير من زبائنها يذرفون دموع الحاجة والفاقة والفقر، وها هي تقول: «بتّ أشفق عليهم، أحيانا كثيرة أطردهم من النادي، فالقليل من مدخراتهم ستكون من حق عائلاتهم لا من حقي أنا»، ثم تصمت وتتساءل: «وحقي أنا من سيهديني اليه؟».

إلى «داعش»

تطالبها زهراء بأن تقلع عن هذه المهنة و«تتوب»، وبسخرية لا تخلو من الوجع تجيبها غنوة: أتوب؟ حاولت التوبة وقرأت إعلاناً يقول: مطلوب بنات لورشة خياطة، الرواتب مغرية، وعندما نزلت الى القبو لأتعرف على معمل الخياطة، سألني صاحب المعمل: هل تعرفين الخياطة؟ أجبته، لا ، أعرف أن أستخدم المقص. بعدما غادرت المعمل، عرفت أن الكهرباء مقطوعة على الدوام وأن ماكينات هذا المعمل لا تدور، هو مجرد إعلان لاستدراج البنات».
بعد صمت لن يطول تروي غنوة: «إذا كان لا بد من التوبة فما علي سوى أن أتنقّب وألتحق بداعش، هناك أشتغل في جهاد النكاح، مهنة مربحة»، ثم تطلق ضحكة ماجنة مصحوبة بحركات شاتمة من أصابعها وتقول: «لم لا؟ نربحها دنيا وآخرة... ولاد الكلب».
غنوة تعيش في جرمانا، المدينة التي باتت تعجّ باللاجئين والمتشردين وفاقدي الأمل، وكانت تعيش فيها ما قبل الحرب. قبل الحرب كان الصراع ما بين البنات العراقيات والبنات السوريات في ذروته، فالآتيات من جنازات العراق كنّ منافسات قويات للسوريات، العراقيات رحلن من بلاد ليس لهن فيها «خبز»، وما تبقى من خبز البلاد لا يكفي بنات البلاد.

ملعونة هي الحرب

هي الحرب. لعنة التاريخ، سبق أن شهدت بلدان أخرى ما يشبهها، فغابة بولونيا لا تزال شاهدة على ما تورثه الحرب، كانت تلك غابة من منتجات الحرب العالمية الثانية وقد نقلت المومسات في سفنها إلى جبال لبنان، أي غابات ستنتجها الحرب السوريّة. هي غابات تأخذ شكل الحدائق، فقد قطع صقيع البلاد الزيتون والمشمش والحور والغابات، كل ما تبقى مساحات صغيرة جرداء تسكنها أسر جرداء، سوى من أمل الموت على قيد الحياة، بشر باتوا أقرب إلى آثار طيور.
... غنوة، واحدة من بنات الليل في عاصمة خيّم عليها الليل بعد ستة آلاف عام من التاريخ.