بدأت مسيرة 30 يونيو منذ الإعلان الدستوري الهمايوني قبل أن تتوسّع أفقياً في كلّ الاتجاهات، وبالتالي تصبح ملكاً لطبقات لم يكن يسمح لها في السابق بالتعبير عن نفسها خارج إطار الاصطفافات النخبوية الضيقة (وهي تأخذ أحياناً شكلاً عمودياً، أي بالمعنى الثقافوي للكلمة). ثمّة استحالة لدى السلطة في فهم الدينامية التي تأخذ الانقسام السياسي بعيداً عن الشكل العمودي الذي عرف به حتى وقت قريب. آخر ما وصلنا عن هذا التوسّع الأفقي هو الطبعة البرازيلية الباهرة التي أربكت حكم الرئيسة ديلما روسيف وأجبرتها على التراجع خطوة إلى الخلف. سنترك التّعس أردوغان يقول ما يشاء عن الاحتجاجات هناك، فهو يقدّم في هذه المرحلة نموذجاً مدرسياً متقدّماً لعجز السلطة عن فهم الاحتجاج حين يتوسّع ويخرج عن المحدّدات المرسومة له طبقياً. سبق لبشّار الأسد أن فعل ذلك في بدايات الانتفاض السوري، والآن يحاول مرسي اللحاق بالاثنين على طريقته.
المسألة هنا ليست متعلّقة بالأطوار التي يمرّ بها الفعل الاحتجاجي، بل بالموقع الذي تنطلق منه السلطة للتعامل مع الأمر. في الحالة التي تنفجر الآن، بدت السلطة متمثّلة في الإخوان المسلمين عاجزة عن إدراك التحوّل الجوهري الذي طرأ على حراك المعارضة. فقد اعتادت التعامل معه من موقع التماهي مع حالة تشبهها في الشكل وفي المضمون أيضاً. بالفعل، كان هذا هو حال المعارضة المصرية التقليدية والعاجزة قبل توسّع رقعة الاحتجاجات. معظم أفرادها يحسبون على البورجوازية المدينية التي لا تعرف الفرق بين الاحتجاج الاجتماعي ونظيره السياسي. وعندما يتاح لهم ذلك، لا يفعلون الكثير لمطابقة هذا الفهم مع احتياجات الواقع وتحوّلاته. إلى هذا الفصيل بالتحديد ينتمي وائل غنيم وإسراء عبد الفتاح وأسماء محفوظ وغيرهم من الأسماء التي «أطلقت» الموجة الأولى من الاحتجاجات. سنّهم المبكرة لم تجعلهم منفصلين عن الحاضنة البورجوازية «العجوزة» (بالعامية المصرية) التي أنتجتهم وجعلت منهم رموزاً يقتدى بها. الأرجح كذلك أنّ «تواريهم عن الأنظار» الآن هو نتاج مباشر لحالة الفصام التي أصابت عدداً منهم بعد الالتحام المباشر بالواقع المصري، وهو في معظمه بعيد عن تصوّراتهم لشكل الدولة التي سترث قطيعتهم المفترضة مع النظام. بالأساس كانت هذه «القطيعة» تعبيراً عن قطيعة أخرى مع الواقع، فقد افترض هؤلاء ومن ورائهم مؤسّسات المجتمع المدني المموّلة غربياً، أن إزاحة مبارك عن السلطة كفيلة بإشعار الناس بأنّ تغييراً جذرياً قد حدث. وهو ما لم يحصل إلّا بعد وقت طويل، أي حينما تنحّى «رفاقنا» عن قيادة الانتفاض. حينها فقط بدأ المشهد يتغيّر، وصار بالإمكان الحديث عن «معارضة جذرية» تضع السلطة في الزاوية. من يتأمّل ارتباك الإخوان حاليّاً في التعامل مع الحالة التي تعبّر عنها حركة «تمرّد»، فسيعي أكثر ماهية الديناميّة التي تنقل المعارضة من ضفّة إلى أخرى. من ضفّة الانتماء، إلى حالة معزولة عن المجتمع أو غير معبّرة تماماً عنه، إلى ضفّة الكتلة الاجتماعية «المتماسكة» والمتحوّلة شيئاً فشيئاً إلى طبقة «لها ملامحها الواضحة». وهذا ما حدا بكاتب مرموق مثل عبد الله السناوي إلى الحديث قبل أيام من على شاشة أون تي في (وهي لا تزال نيوليبرالية في بعض ملامحها) عن تفضيله للموجة الاحتجاجية الجديدة، على اعتبار أنّها أقرب في رأيه إلى النسيج الوطني المصري من نظيرتها السابقة. قد يختلف المرء مع الرجل في تأويله لعلاقة «تمرّد» بهذا النسيج _ هو يضع العلاقة في سياق الموقف الذي اتخذه شباب «تمرّد» من مؤسّسة الجيش، وهي مؤسّسة تتعامل معها الأدبيات الناصرية باحترام لا يتّسق مع انحيازاتها الاقتصادية والسياسية الحالية _ ولكن التقاطع معه سيبقى قائماً إذا كان المعيار في تفضيله المتمرّدين على سواهم هو تماهيهم الكامل مع الطبقات الشعبية التي تقود هذا الطور من الانتفاض. أعتقد أيضاً أنّ كثيرين من خارج التيار القومي يشاطرون السنّاوي رأيه، وخصوصاً داخل اليسار الذي يحتفظ دائماً بمسافة نقدية من الجيش والعسكريتاريا. في الطور السابق من الانتفاض، حاول هؤلاء أن يجرّوا الطبقات الشعبية إلى المعركة ضدّ السلطة، لكي لا تبدو أنّها معركة أفراد ضدّ بعضهم البعض. وقد نجحوا جزئياً في ذلك، إلّا أنّ تماهيهم مع الجماهير التي أسقطت مبارك بقي ناقصا ومن غير حامل اجتماعي فعلي. حينها أيضاً، امتدّت الاحتجاجات إلى محافظات مختلفة، وهذا أمر يوفّر في العادة مظلّة لمزيد من الانخراط على أساس اجتماعي، وعدم حصوله وقتها بالشكل الأمثل أشعر الكثيرين بأنّ هنالك مشكلة في الاحتجاج نفسه لا في من ينهض به فحسب. لم يكن تلافي هذه المشكلة على الأجندة أيّامها، وهذا ما رسّخ الاعتقاد لدى قطاعات متزايدة من المصريين بوجوب البقاء على الحياد في الصراع الدائر بين الثوريين والنظام الذي ورث امتيازات مبارك.
بدا الأمر عبثياً بعض الشيء لدى اندلاع مواجهات محمّد محمود والعبّاسية وماسبيرو ومجلس الوزراء و...الخ. فالاصطدام المباشر مع الجيش وقوّات الأمن حينها هو الذي أتاح للهامش الذي صنعه الانتفاض بأن يبقى. ومع ذلك بقي يجابه بممانعة كبيرة من القطاعات الداعمة للجيش داخل الطبقتين الوسطى والكادحة! وحين حصل الانزياح لاحقاً بمعيّة التحالف المستجدّ بين «الطبقة الوسطى» (ما اصطلح على تسميته مصرياً حزب الكنبة) وبين الثوريين، لم يجر التراجع كليّاً عن خيارات المرحلة السابقة، وهذا ما أشعر ثوريّي الموجة الأولى بالامتعاض لكونهم أحسّوا بأنّ جهدهم لم يقابل بالمثل، وبأنّ الآخرين في طريقهم للاستيلاء عليه. الأرجح أيضاً أنّ هذا التناقض سيعود إلى السطح بمجرّد سقوط الإخوان، فهو ليس بالقليل أبداً، والدور الذي أدّته حركة «تمرّد» «لطمسه» أو تأجيله لن يستمرّ إلى الأبد. من الممكن أن يعود بشكل مختلف، ومن الممكن كذلك ألّا يعود أبداً، ففي النهاية عودته من عدمها مرتبطة بما ستفعله الطبقات التي استأنفت احتجاجها ضدّ النظام: إذا استطاعت إجبار الجيش وليس الإخوان فقط على معاودة النظر في انحيازاته الطبقية، سيصبح ممكناً توقّع أي شيء من هذه الموجة الثورية الجديدة. أما إذا لم تستطع فعل ذلك، فسنكون على موعد مع مزيد من الاحتجاجات الموضعية ضدّ أدوار الجيش والأمن في النظام الجديد. وهذا يعني استمرار التناقض أعلاه في التفاعل وفي صياغة وعي المصريين لثورتهم.
لنقل أيضاً إنّ حركة «تمرّد» هي نتاج للتفاعل ذاك، ولو بدت في صدد «طمسه» ظاهرياً. فهي لا تستطيع أن تقطع مع الكتلة الاحتجاجية التي تملك ملاحظات فعلية على أداء الجيش، كما لا تقدر على إدارة الظهر لمن يعترض من «حزب الكنبة» على انتقاد المؤسّسة العسكرية. الطرفان معترضان الآن على حكم الإخوان ومتقاطعان عند حتمية إسقاطه. غير أنّ التقاطع ذاك لا يكفي لبناء إجماع حقيقي، أو لصياغة بديل فعلي من النظام القائم.
ليس أمامنا إذاً إلّا الاعتماد على نظرية عبد الله السنّاوي في استخدام الوطنية المصرية كرافعة لهذه المرحلة. يجب أن يكون واضحاً أيضاً أنّها مرحلة انتقالية كغيرها من المراحل التي تمرّ بها الشعوب أثناء المخاضات الكبرى. وهذا يعني عدم التعويل عليها كثيراً في قضايا مثل البطالة والتشغيل والأجور وحقوق العمّال والمهمّشين و...الخ. في مثل هذه الأمور لا تجدي الدعاية التقدّمية كثيراً، إذ إنّ الاقتصاد بخلاف السياسة أمر محسوس جدّاً، وتناوله يفضح الكثير من الطروحات التي تزعم الانشغال به. في هذه اللحظة الفارقة، يمكن استخدامه في الدعاية ضدّ الإخوان وحكمهم اليميني، على أن يكون له حصّة وازنة من اهتمامات الكتلة المنتفضة لاحقاً، تماماً كما يفعل الآن بمثابرة مدهشة ومثيرة للاهتمام كلّ من خالد علي وأحمد السيد النجّار. بالإمكان إضافة اسميهما إلى اسم عبد الله السنّاوي، فهما يكمّلان في طروحاتهما الاقتصادية الثورية رؤية الرجل الفذّة لمستقبل مصر في المنطقة بعد إطاحة الإخوان. أصلاً حين لمح السنّاوي إلى ارتباط حركة «تمرّد» بالوطنية المصرية التي يقع الجيش في صلبها، لم يكن يفعل ما يعتقد أنّه صواب فحسب، بل كان يقترب حسب رأيي من مفهوم «الكتلة التاريخية» التي بدأت ملامحها بالتبلور هناك. حتّى اليسار الراديكالي الذي لعب دوراً طليعيّاً في المرحلة السابقة (الاشتراكيون الثوريون، التحالف الشعبي الاشتراكي ...الخ) سيكون مضطرّاً أحيانا إلى مقايضة الجيش والتعامل معه بالقطعة؛ فهو لا يملك الآن أن يقود الكتلة الجديدة المتشكّلة على ضوء انتهاء الاصطفافات القديمة. وجلّ ما يمكنه فعله هو تجيير خبرته النظرية (وكذا العملية) في المعركة الحالية، لكي يصبح بمقدوره أن يحجز موقعاً له داخل المعادلة بعد سقوط الإخوان. حينها فقط يغدو بإمكانه استئناف معاركه المؤجّلة ضدّ المحاكمات العسكرية وإمبراطورية الجيش الاقتصادية وبطش الشرطة واليمين المعارض والتبعية الاقتصادية للرأسمال الدولي و...الخ. لا يعني ذلك أن هذه الأمور ليست في صلب الانتفاض الحالي ضدّ السلطة الإخوانية، إنّما هي موجودة بمقدار ما تقتضيه المواجهة الحالية. وهذه الأخيرة لن يكتب لها النجاح إلا حين تنال الإجماع، وتصبح في متناول الطبقتين الأكثر تأثيراً حاليّاً في المشهد المصري، وأعني بهما الطبقتين الوسطى والكادحة.
حين كنت أستمع بالأمس إلى الناطق باسم حركة «تمرّد» محمود بدر، تبادرت إلى ذهني مباشرة فكرة مفادها أنّ الخطاب الذي يستعمله الرجل هو الأفضل في هذه المرحلة. فالشاب الناصري الممتلئ حيوية لا يبدو بعيداً عن الطبقات المفقرة التي تصطدم الآن بالسلطة وتحرق مقارّ الإخوان المسلمين الواحد تلو الآخر. وهو في الآن ذاته ينتمي إلى شريحة طبقية ليست ميسورة بالمعنى الحرفي، وإن كانت على صلة من حيث الانتماء على الأقلّ بالطبقة الوسطى العليا التي مكّنها عبد الناصر من الترقّي اجتماعياً. هذه الخلطة بالإضافة إلى اللغة البسيطة _ وكذا الواضحة _ التي تستقطب أكبر شريحة ممكنة من المصريين، مكّنتا الشاب من ملء الفراغ الذي أحدثه خروج حركات سياسية أكثر نخبوية من المشهد (6 أبريل مثلاً). وهي مناسبة بالفعل لاختبار مدى جدّية النموذج الجديد، فإذا نجح في صياغة توليفة قادرة على الاستمرار إلى ما بعد سقوط الإخوان بقليل، يكون قد نضج حقّاً، وبالتالي أصبح جاهزاً لنقل خبرته إلى الجيل اللاحق من الثوريين. هكذا فعلت حركة 6 أبريل من قبل ومعها كلّ الكيانات الثورية الأخرى (اتحاد شباب الثورة، اتحاد شباب ماسبيرو ...الخ). وهكذا ستفعل كلّ الموجات اللاحقة حين تصطدم بالسلطة القائمة. ومن يتوهّم أنّ سبب هذه الحالة المستمرّة هم الإخوان فسيكتشف لاحقاً أنّه قد يكون التالي على قائمة الحركات الاحتجاجية الثورية.
لا يتعلّق الأمر هنا بالمعطى الديني الذي تسبّب بتوريط الإخوان، وهم فصيل سياسي بالأساس، بالمسألة الثقافية، وإنما يتّصل بالسلطة التي تستخدم كلّ شيء لكي تبقي على انحيازاتها الطبقية. مفهوم الأخونة بهذا المعنى هو مفهوم طبقي، ومقدار الجرعة الدينية الذي فيه يقاس بمعيار السياسة لا بغيره. على هذا الأساس، انتفض الناس في معظم محافظات مصر ضدّ الإخوان. وعليه أيضاً سيعاودون الانتفاض ضدّ أيّ سلطة تجرّب تهميشهم من موقع طبقي. إذا فعل اليمين العلماني ذلك فسيجد نفسه قريباً في موقع مماثل لموقع اليسار الذي يحكم البرازيل حاليّاً، ولا يعرف بالضبط لماذا حدث ما حدث عنده. اليمين التركي أيضاً لا يعرف، رغم احتكار زعيمه الآفل لما يعتقد أنّها المعرفة بما يجري. كلّهم بهذا المعنى جهلة وغير مدركين للحظة التاريخية. لحظة تشترك في صنعها طبقات اجتماعية عرفت كيف تتوحّد مرحلياً وكيف تخوض صراعها ضدّ السلطة، أيّ سلطة. لنتفاءل إذاً ولنصطفّ خلف «الثورة» التي يعدنا بها المصريون. ما نفع التفاؤل الثوري أصلاً إذا لم يكن بمعيّة طبقة يمكن الاصطفاف خلفها. اسألوا محمود بدر.
*كاتب سوري