تونس | في خطوة مفاجئة، أعلن رئيس هيئة أركان الجيش التونسي الفريق أول رشيد عمار، في أول ظهور تلفزيوني منذ قيام الثورة في مطلع عام 2011، طلبه إعفاءه من رئاسة الأركان وعدم التمديد له لفترة أخرى، بعد أن استوفى كل آجال التمديد منذ ٢٠٠٦، على حد قوله. لقد ظهر الجنرال عمار (مواليد ١٩٤٨) في البرنامج الأكثر مشاهدة في تونس على شاشة التونسية «التاسعة مساءً» الاثنين الماضي، ليتحدث للمرة الثانية طوال مسيرته العسكرية خارج الإطار العسكري والرسمي؛ إذ كانت المرة الأولى يوم ٢٤ كانون الثاني عام ٢٠١١ عندما خاطب شبان اعتصام القصبة المطالبين بإسقاط الحكومة والمؤسسات الشرعية آنذاك بأنه الضامن لمسيرة الثورة. وقد نجح آنذاك في تهدئة خواطر الغاضبين الذين رأوا فيه حامي الوطن والثورة. صورة الجنرال عمار المُقبل من جهة الساحل، حيث ينحدر حكام تونس منذ الاستقلال إلى فترة ١٤ كانون الثاني ٢٠١١، حافظت على الكثير من النقاء بين التونسيين الذين يقرّون له بالفضل في حماية مؤسسات الدولة والانتصار للشعب ضد زين العابدين بن علي، عندما رفض أن يطلق الجيش الرصاص على التونسيين الغاضبين. لقد تحدث الرجل في حواره التلفزيوني عن الكثير من التفاصيل والأسرار التي لم يكن الشارع التونسي مُلمّاً بها بدقة، مثل رفضه تولي رئاسة الجمهورية مساء ١٤ كانون الثاني عندما هرب الرئيس المخلوع، لإيمانه بالمؤسسات والشرعية والدستور الذي ينص على تولي رئيس مجلس الشعب (البرلمان) مسؤولية رئاسة البلاد في حال شغور منصب رئيس الجمهورية في انتظار إجراء انتخابات عامة في غضون شهرين، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة. الجنرال تحدث بلغة يفهمها المواطن البسيط ولئن لم يتّهم حكومة حركة النهضة بالتقصير، وخصوصاً في مستوى الاستخبارات لمحاصرة الإرهابيين. إلا أنه حمّل ضمنياً حكومتي حامد الجبالي وعلي العريض، مسؤولية أحداث جبل الشعانبي التي لم تتم السيطرة عليها إلى الآن بعد شهرين من اندلاع المواجهات مع «الجهاديين».
وحذر عمار من خطر «صوملة» تونس بسبب تنامي نشاط المجموعات المتشددة وتقصير الحكومة في اتخاذ إجراءات أمنية حازمة، مجدداً حياد المؤسسة العسكرية المؤتمنة على النظام الجمهوري.
عمار بدا متألماً من تصريحات بعض السياسيين الذين اتهموا الجيش بـ«الفشل» في معالجة أحداث الشعانبي؛ مثل الأمين العام لحزب «التيار الديموقراطي» الحديث التأسيس. وأكد أنه كان وراء اقتراح الجبالي تشكيل حكومة تكنوقراط بعد اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد، مشيراً إلى أن اغتيال زعيم الجبهة الشعبية هو إعلان وفاة الترويكا باعتبار الزلزال الذي هز الشارع التونسي.
هل يتقاعد الجنرال؟
في حديثه على شاشة «التونسية» الذي جاء بعد الاحتفالات بعيد الجيش، قال الجنرال المستقيل إنه سيذهب إلى بيته ليرتاح ويهتم بأبنائه الأربعة بعد سنوات طويلة في خدمة الدولة والعلَم. ونفى أن يكون له أي طموح سياسي بعد طلب الإعفاء الذي قدّمه لرئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة منصف المرزوقي السبت الماضي. وينتظر رئيس هيئة الأركان تفعيلَ الإعفاء بداية من أول الشهر المقبل، مشيراً إلى أنّ من الطبيعي أن يرتاح؛ إذ كان من المفروض أن يغادر إلى التقاعد منذ سنة ٢٠٠٦، لكن في كل مرة كان يُمدَّد له.
ورأى أن المؤسسة العسكرية فيها ضباط أكفياء تشبّعوا بقيم الجمهورية ويلتزمون تقاليد الجيش التونسي المعروف بحياده تجاه كل الفرقاء السياسيين وحمايته للمؤسسات والدستور.
تصريحات الجنرال عمار هذه أثارت الكثير من الأسئلة والخوف في الشارع التونسي؛ فهذا الجنرال ـ خلافاً للجنرالات العرب ـ كان بإمكانه أن يتولى الحكم بموافقة شعبية واسعة، بل بترحيب لحظة هروب الرئيس بن علي.
لكنه نأى بنفسه عن هذا الدور، وهو حدث فريد في تاريخ الجيوش العربية.
وأكد أنه يخاف أن تدخل تونس، لو تولى السلطة آنذاك، في دوامة من الانقلابات العسكرية بما سيَحرُم التونسيين الاستقرار الذي نعموا به منذ الاستقلال.
ورغم تأكيده أنه لن يبقى في رئاسة الأركان بعد استيفائه شرط السن، إلا أنه نفى أن يكون هذا الطلب في التنحي «استقالة»، فهو يرفض الهروب من المعركة. لكن عدداً من المحللين السياسيين فسّّروا ذلك بأن الجنرال سيكون له دور في المستقبل بعد نزع بزّته العسكرية؛ كأن يكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية مثلاً، باعتبار ما يحظى به من تقدير شعبي بلا حدود والتوافق السياسي الواسع حوله أيضاً، وهو ما لا يتوافر في شخصيات أخرى. وبغضّ النظر عن الأسباب الحقيقية لاستقالة رشيد عمار، فإن الأكيد أن توقيتها يطرح أكثر من سؤال، ولا سيما أن الصفحات القريبة من حركة النهضة في الأسابيع الأخيرة، وكذلك حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، تعرّضت له بالكثير من الإساءات، وهي إساءات مجانية لا يستحقها جنرال أنقذ الدولة وحمى الشعب ونأى بنفسه عن الرئاسة.