إياد ونوس* خلف خطوط المواجهة المباشرة في سوريا، بين محورين، تتخفى القضية الأخطر على المستوى الاستراتيجي. فصياغة التاريخ وأقدار الشعوب لم ولن تكتب فقط بالرصاص.
ثمة أبجدية أخرى آخذة بالتشكّل، وسيكون لها الأثر الأكبر في تحديد مصير سوريا، ومصير هذا الجزء من العالم الذي تعدّدت تسمياته، وحين يستقر المعيار على الجغرافيا السياسية يكون اسمه فقط «غرب آسيا». وعند تناول سوريا، يستوي الحديث على المستويين الوطني والإقليمي إلى حدّ التطابق، إذ إنه وسط الصراع الكبير، بين التكيكات والاستراتيجيات الكبرى، وبين الخبرات والقدرات المعرفية العلمية، هناك خريطة آخذة بالتشكل، وهي لا ترتبط بحدود سايكس _ بيكو، إلا أنّها لم تتجاوزها بعد. هي خريطة العقل السوري الجديد.
ففي حرب العقل، لا تعود الجيوش ولا يعود السلاح سوى تجلٍّ فيزيائي لصراع المناهج والأفكار، وأسلوب الحياة، ومنظومة القيم الفاعلة في حياة الأفراد والمجتمعات. ومن هنا، وعندما يكون العقل هو الهدف، ليس كافياً الدخول في تفاصيل المعارك والانتصارات العسكرية التي يحققها محور المقاومة حالياً، حيث يبقى الأخطر كامناً في ما ليس من مهمات الجيوش، ولا يمكن لفرق الهندسة فيها ان «تمشطه». فما تواجهه سوريا اليوم هو حرب تقسيم مباشرة، ليس للارض بل للعقل السوري، عبر استهداف كل ما يختزنه هذا العقل من مخزون معرفي ثقافي. وقد بدأت حرب تقسيم العقل من خلق حالة «الشبه» في القيمة والرمز التاريخيين.
العبث بالدلالات، يؤكد أن برامج «التحكم في العقل» الأميركية، MK Ultra، وغيره، لم تكن أسلحة أبقتها الولايات المتحدة خارج حرب محورها على سوريا. إسقاط الرموز وتشويه دلالاتها داخل العقل السوري، كانت حرباً أشد شراسة على السوريين من آلاف المسلحين الذين جرى ضخهم داخل الأراضي السورية.
حرفة التسميات، هي معركة بحدّ ذتها. فالتسميات التي اختيرت للمسلحين المتعددي الجنسيات تتجاوز الوظيفة الطائفية، لتضرب الحالة «الكلية» في الدلالة التي تحتويها وكانت حتى وقت قريب غير قابلة للشك في العقل الجمعي. فـ«الثورة» هي قيمة، بالدرجة الأولى، وكانت قيمة ذات رمزية مطلقة في العقل السوري. أما الآن، فقد باتت قيمة مشروخة الدلالة. «كتائب الفاروق» و«أحفاد أبي بكر» مثال آخر. فـ«الفاروق» ليس مجرد اسم موسيقي يهزّ العواطف. هذ الصفة كانت، حتى وقت غير بعيد، تمثل «قيمة» في الثقافة السورية وتدرس في مناهج الدراسة، ربما كان هناك اختلاف في النظرة إليها وفي الموقف من مدى «تألق» تاريخها، ولكن لم يقتتل عليها ولم تكن مبرراً لارتكاب المجازر... باسم الفاروق!
تدمير صورة «الوطن» داخل العقل السوري يعادل في الخطورة محاولات تقسيم سوريا إلى «دويلات». وعودة سوريا إلى مرجعيات الطائفة والعشيرة والوجيه، يعادل في الخطورة حدود سايكس _ بيكو وإعادة رسمها.
والأمثلة هذه تتيح التعميم على كل «الأدبيات» التي ضخت في سياق الحرب على سوريا، والتي، في منهج وطريقة الانتقاء، ترد إلى الوراء قرناً من الزمان. هي أدبيات التقسيم، إلأ أنها باتت أكثر عمقاً ودخولاً في مفردات الثقافة وليس فقط في عناوينها أو خطوطها العريضة.
الاستعماريون الذين استخدموا الطوائف قبل قرن من الزمان للتاثير على العقل السوري، وخلق الشرخ في منظومته الاجتماعية، عادوا اليوم وفي جعبتهم محصول معرفي أكبر من أدوات التدمير والتصفية، وأكثر دقة في التصويب من سلاح القناصة المتطور. وإذا كانت قناصة متطورة في يد مرتزق قادرة على القتل على بعد ثلاثة كيلومترات، فإن «مسافة» كهذه تبدو غير ذات أهمية، عند النظر إلى مسافة التدمير الذي يحدثها اسقاط «القيمة» أو تشويهها داخل البنية الاجتماعية التي جرى العمل عليها منذ الاستقلال في سوريا، وبطريقة أكثر تركيزاً، منذ تولي الرئيس الراحل حافظ الأسد في سبعينيات القرن الماضي قيادة مشروع الدولة السورية وما رافقه ذلك من عمل معرفي، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود من اختلف ولا يزال يختلف مع وزن وتأثير ما جرى انجازه منذ ذلك التاريخ، وما كان من الممكن انجازه.
وبموازاة ما يقوم به جيش البلاد على امتداد الأرض السورية، تواجه سوريا تحدياً أكبر، وهو عملياً تحدي «ترميم» العقل السوري. فاللغة الثقافية المستخدمة، من حيث تأثيرها، متأخرة فعلياً عن العمليات العسكرية بسنوات. فالأحداث أبرزت «هويات» متناقضة، ردود الفعل في بعض الأحيان عادت بالسوريين إلى مدخرات ما قبل الميلاد لتحديد الهوية وصفاء الانتماء. والبعض الآخر خرج من المعادلة بصمت، فيما دخلت بعض الأقليات المهاجرة على خط الأزمة، وادعت الحق التاريخي بالمشاركة في القرار. الأحزاب الجديدة لم تنظر في الأمر، والأحزاب القديمة لم تراجع جدوى مشاريعها التأسيسية. ولا يزال «المسكوت عنه» مسكوتاً عنه، ولا تزال قراءة الضرر المعرفي غير واضحة.
الفعل العسكري على الأرض السورية شامل، لكن اللغة الإعلامية جزئية. الدمار المتعدد الأوجه، والخطاب الذي أسقطه ما يسمى «الربيع العربي» لم يعد كافياً لـ«إعادة إعمار العقل»!
* باحث سياسي