صنعاء | هي ليست المرّة الأولى التي يفعلها الأشقاء في حق أبناء «اليمن السعيد»، وإن اختلفت الظروف. فهم «لم يتركوا لنا فرصة كي نقوم بتسوية أوضاعنا، كانت الفترة التي منحونا إياها قصيرة جداً، ولا تسمح بإيجاد حلول معقولة أبداً»، حسبما يقول علي (50 عاماً). علي كان من أوائل من قرّروا ترك السعودية، بعدما رأى أنه لا حل ممكناً. هو يرى أن اليمنيين دائماً ضحية خلافات سياسية بين النظامين لا شأن لهم بها، مضيفاً «ها أنا أعود بيدين فارغتين بعدما خدمت السعوديين ثلاثين عاماً».
الشقيقة الكبرى

قالت لهم الرياض عبر إجراء تعديلات في قانون العمل: عودوا إلى بلادكم فلم يعد معكم هنا مساحة ممكنة للحياة. هم عاملون يمنيون لم يعرفوا في مسار أيامهم غير السعودية، الشقيقة الكبرى.
في عام 1990 وعند الغزو العراقي لدولة الكويت اتخذ الرئيس السابق علي عبد الله صالح، موقفاً لم يكن مدروساً على نحو جاد اقتصادياً. موقف مؤيد للرئيس العراقي صدام حسين، كانت له نتائجه القاسية. فقد اتخذ النظام السعودي قراراً قضى بطرد كافة اليمنيين المقيمين، ومن أراد البقاء فعليه أن ينسى قصة الإقامة من غير امتلاك «كفيل سعودي».

في ذمة الكفيل

من هنا فضّل كثيرون، نحو مليون ونصف مليون مقيم يمني العودة إلى بلادهم وعدم البقاء في ذمة كفيل سعودي سيعمل على إهانتهم والتصرف بحياتهم كأنه إله.
وكانت عودة كلفّت اليمن كثيراً. انتهت سريعاً تلك الأموال التي عادوا بها من «بلاد الغربة». نظام صالح لم يكن قد خطط لشيء يمكنه استيعاب كل هذه العمالة العائدة إلى بلدها الأصلي. تغيّر وجه الحياة في اليمن نتيجة ذلك العدد الكبير الذي عاد بلا تهيئة. ارتفعت نسبة البطالة وصار الناس يرتكبون جرائم جديدة لم يكونوا يعرفونها من قبل. التطرف الديني من جهته ازداد استفحالاً، فالفقر بيئة ملائمة للتطرف. ومع ازدياد نسبة قساوة العيش في البلاد، لم يجد كثير من العائدين غير التفكير في العودة إلى الأراضي السعودية ولو بطرق غير شرعية. الرئيس صالح من جهته، لم يكن يملك حلاً ينجيه من جحيم الوضع الذي صار قائماً غير اللعب على ورقة الاتفاقيات الحدودية بين بلاده والسعودية.
اتخذها، في الظاهر، ورقة ضغط يحاول من خلالها استعادة بعض من التسهيلات التي كانت المملكة تتيحها للمواطنين اليمنيين، الذين كانوا مقيمين في أراضيها، لكن في الباطن كان يفعل كل شيء لمصلحته الشخصية.
كانت وسيلته العودة إلى معاهدة الطائف التاريخية بين البلدين، التي كان التوقيع عليها عام 1934. أصر صالح عليها لكن السعودية بدورها أصرت على أن يكون أي اتفاق مقبل، نهائياً وغير قابل للنقض أو التراجع عنه؛ بمعنى أن مناطق عسير ونجران وجيزان (السعوديون يسمونها جازان) ستبقى سعودية.
ادّعى صالح بداية الأمر أنه لن يستطيع التوقيع على هذا الأمر: «لا أقبل أن يقال عنيّ وعن أولادي إنني تنازلت عن أرض يمنية لدولة أقوى وأغنى».
وكان هذا من باب المناورة لغاية الوصول الى أكبر مقابل مالي ممكن أن يناله من المملكة. هذا إضافة للرواتب والمخصصات المالية الشهرية التي كانت تُصرف له عن طريق لجنة صرف خاصة ومعه عدد كبير من كبار رجال الدولة في اليمن. واستمر السعي طويلاً. مع الوقت كانت قيمة أسهم البيع في ارتفاع إلى أن وصلوا ليوم الثاني عشر من حزيران عام2000، حين التوقيع على معاهدة مدينة جدّة، وعليه صارت تلك الأراضي سعودية إلى الأبد.

ملحق سري

وجاء الرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي، ليجد الوضع على ما هو عليه. هناك اتفاقيات رسميّة جرى توقيعها ولا بد من احترامها، كما اكتشف أن هناك ملحقاً سرياً لهذه الاتفاقيات لم يُوقَّع وتقع فوقه مسؤولية التوقيع، لكنه رفض متذرعاً بأنه ليس سوى رئيس لمرحلة انتقالية ولا يجوز له دستورياً توقيع ملحق يخص السيادة اليمنية على أراضيها. كعادتها لن تقف السعودية متفرجة بطبيعة الحال. ينبغي لها البحث عن وسائل ضغط، لكن من أين أتى ذلك الملحق، ولماذا جرى الحديث عنه في هذا التوقيت؟ ما جرى على الأرض هو أن الرئيس هادي أعلن أن البلاد على مقربة من افتتاح عمليات التنقيب في منطقة الجوف المحاذية للأراضي السعودية، بعدما قالت التجارب الاستكشافية إنها تحتوي على كميات هائلة من النفط. ويقول ذلك الملحق بمنع التنقيب عن النفط على مسافة 100 كيلو متر من الحدود المشتركة بين البلدين.
وكانت جريدة «الأولى» المحلية اليومية قد نشرت تقريراً جديداً صادراً عن الأمم المتحدة، وجاء بعد أيام قليلة من زيارة الرئيس هادي إلى موسكو، حيث قدّم هناك الدعوة لشركات استثمارية محلية للقدوم إلى اليمن والاستثمار في مجال الطاقة. ودخلت الشركات الروسية في منافسات مع شركات أميركية لاستكشاف النفط في المناطق اليمنية التي لا ترغب السعودية في استخراج النفط منها.
وقال مصدر مطّلع مقرّب من رئاسة الجمهورية، إن الرئيس هادي يتعرض حالياً لضغوط شديدة من قبل أركان مؤثرين في داخل نظام الحكم السعودي، من أجل دفعه إلى توقيع ذلك الملحق المرتبط باتفاقية جدّة.
وقال المصدر لـ «الأخبار» إن هادي يصر تماماً على عدم التوقيع «لكونه رئيساً انتقالياً لا يملك صلاحيات تخوله توقيع اتفاقيات مثل هذه من شأنها أن تُلحق الضرر بالمصلحة العليا اليمنية»، لكن السعودية لم تقف متفرجة على ما يحصل من الطرف اليمني الضعيف. هي تعرف من أي نقطة يجري تركيع «اليمن السعيد».
وبناءً عليه تظهر أيام اليمنيين المقبلة سوداء تماماً، فلا فتحة ضوء أو أمل تبين في الأفق وهم يعودون إلى البلاد الأصلية وهم فقراء كما تركوها أول مرّة، تلك البلاد التي غادروها مجبرين بحثاً عن مصدر رزق كريم لهم ولأسرهم، لكن النظام السعودي العائلي لا يهتم بهذا، أو يحاول القفز عليه ولو على نحو مؤقت كي يتسنى له الوصول إلى غايته المُنتظرة.
يروي البعض أن الرئيس هادي سيقوم بزيارة قريبة إلى «أراضي الحرام المقدسة» بغية الوصول إلى حل ممكن يُجنّب اليمن الغرق في ثقب أسود لا يستطيع أحد التنبؤ بمدى فداحة نتائجه، فيما تبدو السعودية واضحة في مطالبها: إمّا أن يجري توقيع ملحق اتفاقية جدّة أو فليمت اليمنيون من الجوع.



الأذية في مصدر الرزق

باشرت السلطات السعودية سريعاً تطبيق التوجيهات التي أصدرها الملك عبد الله (الصورة) والخاصة بإجراء تعديلات في قانون العمل، حيث سيُمنع العمال من العمل في أي نطاق يخرج عن سيطرة الكفيل السعودي. وهي تعديلات لن يتضرر منها على نحو مباشر غير الوافد اليمني. كأن تلك التعديلات قد جرى اختراعها كي تفعل الأذية في مصدر رزقه.
هذا ظهر فوراً على السطح بمجرد البدء في تنفيذ قانون العمل بشكله الجديد، حيث بدأت اليمن تستعيد نفس تلك الأجواء القاسية والمؤلمة التي عاشتها في أزمة ترحيل اليمنيين عام 1990، عبر انقطاع وصول تحويلات مالية هائلة كانت تصل إلى حدود الملياري دولار أميركي كان المغتربون يبعثون بها إلى الداخل.
وبحسب تعديلات ذلك القانون صار هناك عدد هائل من اليمنيين عرضة لتهديد دفعهم غرامات مالية ضخمة، والسجن، قبل أن يجري ترحيلهم إلى بلادهم على نحو نهائي نتيجة لعدم قدرتهم على تصحيح أوضاعهم، فالفترة الزمينة المخصصة لهم ضيقة، ولا تمكنهم من فعل شيء، إضافة إلى منعهم من دخول أراضي المملكة مرة أخرى.
كذلك تنص تلك التعديلات على حرمان أي عامل يشتغل لدى غير كفيل أو بغير المهنة التي يشير إليها ترخيص عمله، وترحيله على نفقته الخاصة.