طرطوس | حين تقرر الخروج من جو الحرب الطاحنة التي تعيشها الأراضي السورية، وتهرب باتجاه كورنيش طرطوس، لعلّ مزاج الحزن ينقلب راحةً أمام نقاء البحر، لا تنسَ أن تلتفت قليلاً نحو الأنفاق المتاخمة للشاطئ. هُناك حيث للأطفال عيون مختلفة عن البراءة والمثالية، وحيث الحزن يلمع مرّات، والعنف يختفي ويلوح واعداً بمستقبل مشبوه، مرات عديدة. للبحر هُناك حكاياته المتماهية مع الأزمة التي استوطنت البلاد بشرقها وغربها. فكيف تتوقع أن ترى أمام هذه الزرقة الكبيرة اللامتناهية، أنفاقاً ذات روائح كريهة، تحتوي على غرف بائسة يقطنها سوريون مثلك، إنما بحظّ أقلّ وخيبة أكثر؟! اقترب قليلاً، سترى الأطفال يلعبون، متناسين المصير القاتم الذي آلوا إليه مع عائلاتهم. بعضهم ينظر إليك بابتسامة بريئة آسرة، فيما بعضهم الآخر سيستحوذ على قلبك بنظرته الحزينة الشذرة، فليس جميعهم بارعين في الابتسام. بعضهم سيهرع باتجاهك: «صوّرني».والبعض الآخر لن تهزّه كاميرتك أو نظراتك أو ثيابك النظيفة، فلقد مرّ عليه وعلى المكان صحفيون ومصوّرون كثُر، ولا زال، على حاله، يدفن طفولته المسكينة داخل نفق بروائح كريهة. في مواجهة الشاطئ يجلس بعضهم على بساط أزرق. خلعوا أحذيتهم جانباً، ليلعبوا بهدوء ووداعة. إلى اليسار قليلاً تقف عربة للبيع تتنقل بعجلتين، وتبدو لوالد أحدهم أو عدة منهم. الكثير من الأغطية المنشورة على السور المعدني، بالقرب من السلّم الحجري الذي سيفضي بك إلى غياهب النفق، حيث يعيش الأطفال مع عائلاتهم النازحة. الأمومة داخل نفق النفق المذكور ملك لبلدية طرطوس التي كانت تعدّه للاستثمار كمحال تجارية، إلا أن اندلاع الأزمة السورية حال دون استكمال التجهيزات، ما أدّى إلى استيطان نحو 300 فرد من عائلات نازحة في تلك المحال، واضعين البلدية أمام الأمر الواقع. بعضهم غادر النفق، ووطّن مكانه عائلة من معارفه، لتكتشف البلدية الأمر لاحقاً، رغم الكثير من محاولاتها ضبط الوضع لتسيير أمور المحالّ التجارية وسكّانها بعلمها. وفي وقت تدرس فيه محافظة طرطوس إمكانية ضمّهم تحت رعايتها، تداركت البلدية الأمر، موقتاً، من خلال تخصيص مراكز صحية تجري لهم فحوصاً طبية دورية، ويشرف عليهم يومياً طبيب من مديرية الصحة. دخول النفق يكلّف الزائر المزيد من الروائح المزعجة؛ إذ إن دورات المياه إلى اليمين في أول الممر: «للنساء»، ثمّ «للرجال». يدخل الأطفال متقيدين بدور محدد إلى الحمامات. امرأة ترش المياه على أرض النفق بغرض التنظيف وإضفاء قليل من البرودة على الجو الخانق. امرأة أُخرى تحاول رفع الغطاء المستعمل باباً لغرفتها الفقيرة، بغرض معرفة هوية زوار النفق الجدد. حالةٌ مختلفة أن تخرج من بيتك كل صباح رافعاً باباً معدنياً، يفصلك عن الرطوبة والعفن بدل أن نور الشمس والهواء الطلق. وفي بعض المحالّ استعيض عن الأبواب بالسجّاد لحجب من يقطن داخل الغرف عن الداخلين إلى النفق. النساء يهربن من الكاميرا، فيما يدفعن أطفالهن نحو الصورة. إحداهن تتحدث لـ«الأخبار»: «نحن من حلب. هربنا من حي صلاح الدين، حيث هُجِّرنا من بيوتنا. ولم نجد مكاناً آخر نلجأ إليه. نحنُ لا نقوى على دفع أي إيجارات». في آخر النفق تظهر خيمة أُنشئت على عجل، وكأن صاحبها جاء متأخراً عن توزيع «المحالّ»، فاضطر إلى الاستفادة من الطقس الصيفي المعتدل في المدينة الساحلية وقبول العيش داخل خيمة. طفل يحبو بالقرب من عربة والده المتنقلة التي تحمل أطعمة يسرح بها خلال النهار، محاولاً كسب قوت يومه. إلى جانب الطفل صندوق للخبز اليابس تتفاعل مع منظر الطفل الجالس أرضاً والعربة، فتحمل إلى داخلك الكثير من الأحاسيس المتناقضة. امرأة حامل في شهورها الأولى هي أكثر ما يمكن أن يستفزك. تحاول لوهلة اللحاق بها والحديث إليها، غير أنها ترفض الالتفات إليك معتدّة بحملها. تودّ سؤال الطبيب: «ماذا عن التوعية والرعاية لتحديد النسل لدى النازحين؟». ولكنك تصرف النظر عن السؤال الذي يجعلك مترف ثقافة متصنّعاً أمام بساطة من حولك، إلا أنك لا تتوقف عن النظر إلى مشروع الأم الماثل أمامك. وتتساءل: إن كانت الأم تضحية حقاً، فما الذي أوحى إلى تلك المرأة بفكرة إنجاب طفل إلى الظلام والرطوبة والمستقبل التعس. بعض الشكاوى... رغم التأقلم 5000 شخص داخل غرف المعسكر، يعيشون حياة مثيرة للجدل، ولكن مقر إقامتهم يطلّ على مساحة شاسعة من الجمال، حيث يبدو الغروب هُنا في أبهى مشهد، حاملاً كل وداعة الأرض السورية، وكأن الأزمة السورية لم تمرّ من هُنا. يجلس طفل جانباً يتأمل في الموجودين حوله، لا يأتي بأي حركة، بل ينطوي على ذاته. صمت عينيه يوحي بالكثير من بلاغة القهر. لا شيء لدى الطفل ليقوله، سوى هدوء ظاهر ونظرات متألمة، ثم عودة لمراقبة أقرانه يلعبون. سور حجري منخفض يفصل الأطفال المتراكضين عن شاطئ البحر. وأكثر ما يخشاه الأهالي على أطفالهم الغرباء عن الطقس الساحلي هو الغرق. تقرأ ما كُتب على إحدى اللوحات بالقرب من الأطفال: «طلائع البعث هم جيل المستقبل». عبارة على لوحة معدنية صدئة، لعلّها، تختصر الحال في البلاد منذ عشرات السنوات وحتى اليوم. فما الذي أودى بالبلاد إلى دهاليز الاقتتال سوى اصطفاء البعث وطلائعه ليكونوا الحاضر والمستقبل؟! من المعارضة إلى تقديس الرئيس أكثر من نصف مليون نازح في طرطوس وحدها، التي يصل عدد سكانها، أساساً، إلى 900 ألف. معظم النازحين إليها من حمص وحماه وإدلب وحلب والرقة ودير الزور وغيرها من مناطق النزاع. يتوزع العدد الأكبر منهم في معسكر طلائع البعث، ومراكز إيواء اللاجئين في الريف القريب من المدينة. يتولى مجلس محافظة طرطوس متابعة أمورهم وتسييرها، ويخصص لهم معونة من الخبز تقدّر بما يعادل 400 ألف ليرة سورية، بحسب ما نقله أحد القيمين من المحافظة على رعاية شؤون النازحين. وكما جرت العادة، كلّ يلقي المسؤولية عن كاهله، موحياً أنه يقوم بواجبه، بل أكثر. في معسكر الكرنك داخل المدينة يقيم 3000 نازح. الغرف هُنا على شكل خيم حجرية، يغطي سقفها القرميد. يلعب الأطفال بين الغرف، فيما يجلس أهاليهم تحت الأشجار كل مغيب. معظم قاطني المكان أتوا من مدينة حلب، ومن حيّ صلاح الدين الذي كان أول أحياء حلب الثائرة على النظام. إنما يهتفون هُنا للرئيس بشار الأسد، ويشتمون المسلحين. كلام لا ينطلي كثيراً على القيّمين عليهم، أو جيرانهم سكان المدينة الساحلية. نساء يطبخن بين الأشجار لأعداد كبيرة من أفراد العائلة، أو عدة عائلات معاً. غرف يسودها من الداخل فقر البيوت السورية المعتاد. لذا، إن ملامح الوجوه في المعسكر تختلف كلياً عن وجوه النازحين داخل النفق السابق. يسود الرضى وجوه النساء الجالسات في الهواء الطلق مع جاراتهن، بينما يحمل الرجال أطفالهم ويسيرون بين الأشجار. صناديق الفليفلة الخضراء والبازلاء في كل مكان، حيث يقوم الجميع كباراً وصغاراً، بالمشاركة في إعداد المؤونة، كأنما يعون جيداً أن الإقامة هُنا ستكون طويلة. آثار الحصار الاقتصادي الجولة الأخيرة في معسكر طلائع البعث على شاطئ طرطوس أيضاً، هُنا ستلمح بقايا آثار اهتمام من قبل حزب البعث بالأطفال، إذ أنشأ لهم مخيّمات صيفية بهدف تنشئتهم على مبادئ الحزب الأوحد. وهُنا تتأكد أن للبحر حكايته مع النازحين. فهذا الرحب يتّسع للكثير من الأحزان، ويلمّ الشتات السوري بقلب كبير قد لا يملكه شركاء الوطن لأسباب سياسية. بعد استئذان الحرس على باب المعسكر يمكنك الدخول إلى ساحته، حيث ستجد عدداً لامتناهياً من الأطفال يلعبون كرة القدم، فيما الكبار يجلسون جانباً أو يمشون بالقرب من أولادهم. امرأة عجوز تجلس على مصطبة حجرية ترى في عينيها كل قهر الجرح السوري. فقدت العجوز بيتها في حلب وجاءت مع ولديها وزوجتيهما. هي ترفض الاتهامات لها ولجيرانها أنهم رعوا عناصر من الجيش الحُر وحضنوهم. تقول المرأة: «لقد دمّروا بيتنا.




أكثر ما يخشاه الأهالي على أطفالهم الغرباء عن الطقس الساحلي هو الغرق (الأخبار)


أتينا إلى هُنا بملابسنا التي نرتديها فقط. كل شخص معرّض لما تعرّضنا له في لحظة ما؛ إذ لا معنى للتوقعات في هذه الحرب اللعينة». الحصار الاقتصادي المفروض على سوريا يتجلّى في حديث المرأة، إذ تقول: «يتوافر عدة أنواع من الدواء، ولكن أدويتي المتعلقة بمرض السكري لا تأتي. هل تعلمين إن كانوا سيأتون بها هذا الأسبوع؟» ترفض المرأة إظهار وجهها أمام الكاميرا، إلا أنها تأتي بحفيدها الصغير وتصرّ على أخذ صورة له بدلاً منها، وكأنها تقدّم شاهداً على هويتها. الكثير من الفوضى والأوراق المهملة المرمية أرضاً، لا اهتمام بالنظافة من البلدية، ولا من السكان النازحين أنفسهم. رجل يحمل طفلته يقترب. يتحدث عن إقامته في المعسكر، ويسهب في الحديث عن منزله في حلب القديمة، الذي أصبح في أيدي مسلحي المعارضة. الرجل الذي أتى إلى طرطوس مع كامل أفراد عائلته وأخوته يحاول طوال وقت الحديث أن يثبت أنه ليس معارضاً، وأن لا أحد من أسرته بقي في حلب يقاتل الجيش. امرأتان تقتربان وتسألان إن كان بالإمكان تقديم المساعدة لهم. تطلب إحداهن تصليح المصابيح في ساحة المعسكر بسبب إثارة العتمة رعباً بين الأطفال عند خروجهم ليلاً لقضاء حاجة. وتبدأ إحداهن بانتقاد الحر الشديد داخل الغرف، وعدم وجود أجهزة تكييف فيما الرطوبة لا تطاق أمام البحر مباشرة. رجل وامرأة يضعان كرسييهما البلاستيكيين ويتفرجان على الغروب قبالة البحر. مشهد مثير للتفاؤل داخل الوجدان السوري المتشائم من كل شيء، ففي سوريا، لا يزال هنالك أزواج عاشقون.