دمشق | لم ينضج الاختلاف السياسي في سوريا بعد، بل تجذّر العنف في فرض الرأي، وتحولت جملة الحراك «البِكر» إلى تعقيدات مسلحة متطرفة، نقلت الأزمة السورية إلى صراع دولي، تدور معاركه في كواليس الحرب الباردة. هناك حيث تلوح في أفق الدبلوماسية بوادر «حل سياسي» يُعتقد أن يجلب الجميع إلى طاولة حوار اعتقد بعض «البعثيين» أنها تمثل اجتماعاً حزبياً يحتاج إلى «أمين حلقة حزبية» وبعض الرفاق من التيارات السياسية الأخرى، سيردد الشّعار، ويتحول الحوار إلى خطاب وطني لا يسمع فيه سوى صوت المسؤول الرسمي! ذاك الفهم الضيق للتعاطي السياسي جعل من قانون الأحزاب السورية الذي أقرّ في تموز عام 2011 ضرورة سياسية في دستور سوريا الجديد، الذي استُفتي عليه السوريون عبر صناديق الاقتراع من أجل الركون إلى حل جديّ عبر الحوار وتبادل الآراء، لكن المسألة لم تحسم هكذا فمجموع الأحزاب التي رُخصت في سوريا اليوم: «لا تستند إلى فكر واضح، وهو ما جعلها تتبنى في كثير من الأحيان مواقف لا يربطها سياق واحد»، كما يقول المحلل السياسي مازن بلال. فهذه الأحزاب كانت نشاطاً تابعاً للأزمة السورية، بينما الملاحظ أن ما أطلق عليه «حراكاً» كان منذ البداية مستقلاً عن أي نشاط أسّس في ما بعد تيارات وقوى وأحزاب، إلى جانب ذلك جاءت موجة العنف الدامي كردّ فعل على ركام من الأخطاء الداخلية في التنوع السياسي. «ارتفاع العنف أدى لانحسار السياسة لمصلحة التسلح، وهو مؤشر على عجز كافة المؤسسات السياسية على التحكم في مفصل الحدث»، يضيف بلال.
تفتقد معظم الأحزاب الجديدة قاعدة شعبية مؤثرة، فأغلبية السوريين اعتادت الركون السياسي والطاعة المطلقة لقرارات الحزب الحاكم، قبل أن تلغى المادة الثامنة من الدستور، التي كانت تنصّ على أن «حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع». والبعض لا يعلم إن كان هنالك أحزاب سياسية جديدة أصلاً: «الجبهة الوطنية التقدمية، تضمّ جميع الأحزاب في سوريا، لا أعلم إن كان هناك أحزاب أخرى غير حزب البعث والحزب الشيوعي والحزب القومي»، تقول فاتن جعفر، الطالبة الجامعية، رغم ذلك يمكن أن تجد مواقع الكترونية للأحزاب الجديدة وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن نشاطها يقتصر على بعض الاعتصامات والبيانات، وأحياناً اللقاءات الحوارية «الساخنة».
الشباب السوري يتطلع إلى نشاط سياسي يعيد إليه صوته وحريته في التعبير، إضافة إلى محاولة إيجاد فرص العمل والتكافؤ الاجتماعي، وضخّ الدماء الجديدة في التغيير السلمي لبنية النظام. «نحن كحزب نرفع شعار سوريا أولاً، وأهدافنا «وطنية، حرية عدالة، بناء»، فحريتنا تبدأ في الجولان وتنتهي في لواء اسكندرون، نسعى إلى تحقيق عدالة اجتماعية بين الشباب من خلال نظام اقتصادي اجتماعي يراعي تكافؤ الفرص»، يلفت ماهر مرهج، الأمين العام لحزب الشباب الوطني السوري. الأحزاب الجديدة تحاول بلورة حلولها الميدانية في الحدث السوري، لكنها لم تنضج بعد لأنها «لم تستطع أن تحجز مواقع قوية داخل سوريا، ونشاطها الإعلامي أكبر من قدرتها على اختراق الواقع الاجتماعي» بحسب تعبير مازن بلال.
كيف تنظر الأحزاب السورية القديمة إلى هذا المشهد في ظل القانون الجديد للأحزاب، وحراك باقي الأحزاب الوطنية على الأرض؟ «كان التحدي الأكبر مواءمة هذا الاستحقاق مع واقع الحزب والتحالفات السياسية التي يلتزم بها حزبنا، وهي مؤسسة الجبهة الوطنية التقدمية، رغم أننا حديثو العهد بها، إلا أنها شكلت صيغة سياسية تحتاج بنظرنا إلى تطوير في الهيكيلية والأداء بما يتناسب مع واقع الأزمة من جهة، وقانون الأحزاب من جهة أخرى»، يشير عبد الله منيني، مفوض الإذاعة والإعلام في الحزب السوري القومي الاجتماعي. أما بالنسبة إلى الأحزاب الجديدة، فأعتقد أنّ من غير المنصف إطلاق الأحكام عليها في ظل هذه الأزمة، ومن حقها أن تأخذ وقتها في التعبير عن تطلعاتها الوطنية وتنفيذ برامجها، واتساع دائرة العنف لا يجوز أن يجعلنا نستسلم لثقافته، يضيف منيني.
قليلاً ما يسلط الإعلام السوري الضوء على هذه التجارب، فالبعض يرى فيها مظاهر لسدّ الخواء الثقافي السياسي، والبعض الآخر يعتقد أن سوء طالعها هو ما حشرها في سبق الحدث السوري لتصنع أثراً وحضوراً. «في المبدأ، تبدو الأحزاب السياسية الجديدة في سوريا حريصة على إثبات وجودها وفعلها على الساحة، لكن وربما من سوء طالعها أنها تأسست في ظل كل هذا الخراب، الأمر الذي لم يمكّنها من تقديم ما تطمح إليه من برامج سياسية واقتصادية واجتماعية تضمنتها بياناتها التأسيسية وتراخيصها، بصرف النظر عن قيمة وجدوى هذه البيانات وقدرتها على الفعل والتأثير في الشارع» يروي لـ«الأخبار» جورج حاجوج، الإعلامي ومقدّم برنامج سياسي على إحدى الإذاعات المحلية الخاصة. المتفائلون قلة بين من يعملون في الأحزاب الجديدة، يوازيهم متشائمون ممن يجلسون جانباً للتنظير والسخرية مما خلفه الاحتقان السياسي والاجتماعي قديماً، هؤلاء تجدهم يشتمون على صفحاتهم في الإنترنت، وقد تجد بعضهم الآخر يواكب المرحلة من وجهة نظر نقدية تسهم في تفكيك الأزمة وجرّها إلى الحلول السلمية والسياسية. «الحياة السياسية لم تتبلور حتى اللحظة، وهي تتشكل مع حراك متنوع وعنف، وسلطة لا تزال قادرة على التأثير داخل البنية الاجتماعية»، يعقّب مازن بلال، بينما يطمح أحد الأحزاب المعارضة إلى تغيير الفكر المؤسساتي السائد المسيطر على المجتمع: «حزب البعث يخاف على مكاسبه من وجود أحزاب جديدة واعدة، قد تستوعب الشباب الذين عجزوا عن استيعاب مطالبهم وحقوقهم بسبب الفساد المستشري الذي تلقفته المؤامرة الخارجية لتنسج عليه وعلى مطالبه خيوطها»، يقول ماهر مرهج.
عناوين عريضة في الحرية والعدالة والمساوة والتمثيل الشعبي في الحكومة، وبعض السوريين لم يجدوا من يدافع عنهم ضد فساد التجار وأصحاب الأسواق السوداء، وفي مؤسسات الدولة هناك مساعٍ يومية لسد رمق الخراب الذي أصاب البنية التحتية والخدمات، مع استمرار دفع رواتب وأجور العمال والموظفين، وليس هناك من يحمل كتفاً في هذه الأزمة سوى الدولة! قبل السياسة كان السوري يعاني سوء الدخل وفوضى الأسعار وحيتان الاحتكار (التعليمي والوظيفي والمعيشي) ومع الأزمة استشرى المرض، وأصبحت معاناته أضعافاً مضاعفة في ظل تجارب أحزاب سياسية جديدة، تمثل شرائح بسيطة من المجتمع ولا تبدو ملامح برامجها السياسية واضحة ومختلفة وحقيقية حتى الساعة.
عندما خرج بعض السوريين إلى الشوارع قبل أن تصيب الحراك لعنة التسلح وتسحقه، خرجوا ليهتفوا «حرية... حرية»، مقلدين شعوب «الربيع العربي»، لكنهم اليوم يهتفون: «أعطني أزمتي المعيشية... وخذ أزمتكَ السياسية».