هناك موجة ما تتحرك في أعماق الأردن، نحو تغيير البيئة السياسية التي أملت معاهدة الصلح مع إسرائيل منذ 1994؛ فبينما كان سقف الحراك الوطني، خلال العقدين الفائتين، يكمن في مقاومة التطبيع مع الإسرائيليين، والعمل الفكري الثقافي المعادي للصهيونية، نجد اليوم أن المعاهدة والعلاقة مع تل أبيب، تتصدر النقاش الوطني. وفي مقابل الهجوم الشعبي والحزبي والبرلماني على «وادي عربة» ونتائجها، لا يكاد يجرؤ أحد على الدفاع عنها، حتى الجهات المعروفة بتأييدها التقليدي لعملية «السلام»، تلوذ بالصمت، بينما تجد الأوساط الحكومية نفسها محرجة، وتصوغ مواقف غامضة في خطاب ملتبس. وكمثال، فإن الإعلان الحكومي عن مغادرة السفير الإسرائيلي في عمان، «محملا برسالة شديدة اللهجة حول التعديات على القدس»، تمت صياغته بصورة مراوغة، وكذبته تل أبيب، لتزيد من حرج الحكومة الأردنية التي لم تبحث بعدُ سحب سفيرها من تل أبيب. ذلك السفير الذي نبذته عشيرته علناً، جراء قبوله المنصب المعيب. إنما الاضطرار الحكومي إلى المراوغة، يُظهر، بحدّ ذاته، قوّة تأثير الرأي العام المتصاعد العداء نحو العدو الإسرائيلي.
الجهة الأخرى المحرَجة من صعود موجة العداء لإسرائيل، تتمثل في الإخوان المسلمين الذين تصدّروا، إلى ما قبل «الربيع العربي»، التحريض ضد إسرائيل ومقاومة التطبيع معها؛ فهؤلاء ــ وقد فقدوا صدقيّتهم في هذا المجال جرّاء تراجع إخوان مصر عن تطبيق أي من شعاراتهم السابقة ضد العدو الإسرائيلي ــ وجدوا أنفسهم متورطين بالغرق في مواقف وأنشطة محمومة معادية للنظام السوري على خلاف الموجة الشعبية المعاكسة. يلهث « الإخوان» اليوم وراء استعادة مواقعهم القيادية السابقة، بلا جدوى، بينما استولت القوى التقليدية من بيروقراطية الدولة والعشائر والقوى القومية واليسارية، على الخطاب الوطني المناهض للكيان الصهيوني. وهو خطاب جديد أخرج الإخوان من المعادلة، ليس بسبب التجذّر الاجتماعي للقوى التي تحمله، فقط، وإنما، أيضا، بسبب بنية هذا الخطاب الذي لا يرتكز، كالخطاب الإخواني، على عموميات عَقدية، بل على معطيات تتعلق بالمخاوف الموضوعية الناجمة عن طروحات الحلول التصفوية المطروحة للقضية الفلسطينية على حساب الأردن.
الملاحظة الاجتماعية ــ السياسية البالغة الأهمية، هنا، هي أن تلك الحلول، بما فيها التوطين السياسي والمحاصصة، تتطلب، على المستوى الداخلي، التخلّص من «الحرس القديم»، أي أولئك البيروقراطيين العشائريين الذين هاجمهم الملك عبد الله الثاني، مؤخرا، واصفا إياهم بـ«الديناصورات». وبالنسبة لهؤلاء، كما بالنسبة للمجتمع الأردني التقليدي، تداخلت ثلاث قضايا معا: التضامن مع النظام السوري وعرقلة الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية والدفاع عن الذات. وهو تداخل يربط الإقليمي والوطني والسياسي الداخلي على نحو وثيق، ويبلور موجة ممانعة إزاء اتجاه التغييرات الحاصلة في بنية الدولة نحو شطب النخب القديمة لصالح نخب تلتقي مع مشروع الكونفدرالية والوطن البديل.
بالنسبة لكتلة تتسع باضطراد من النخب الوطنية، التقليدية والحديثة.. تحولت المعركة الدائرة في سوريا إلى معركة داخلية؛ فانتصار نظام الرئيس بشار الأسد يساوي هزيمة مشروع الوطن البديل بكل صيغه المحضرة أو قيد التحضير، وتعني تقوية مواقع تلك النخب في مواقع القرار، وتعزيز مكانة الجيش والأجهزة الأمنية وأدوات القطاع العام.
مما يفيد في تزخيم الحركة المطالبة بتجميد العلاقة والمعاهدة مع إسرائيل، أنها تتبنى مواقف واقعية، يمكن استخلاصها كالتالي:
أولا، إن تجميد العلاقة والمعاهدة مع إسرائيل، لا يعني الذهاب إلى الحرب، بل يعني الذهاب إلى معركة سياسية لا يمكن تجاوزها، أعني من وجهة نظر «الدولة» وليس «المقاومة»، لإجبار إسرائيل على الوفاء بما يُعرَف باللغة الدبلوماسية، بالتزاماتها نحو السلام، ابتداء من الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة، وعودة النازحين بلا قيود، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين. وقبل ذلك وبعده، وقف تهويد القدس ووقف الاستيطان واطلاق الأسرى وإنهاء الحصارات التي تضغط على الفلسطينيين وتدفعهم للهجرة، وتحديدا نحو الأردن، في ما يسمى الترانسفير الناعم. وهذه «الالتزامات» كانت وما زالت تمثّل جوهر الخطاب الرسمي في تبرير المعاهدة والعلاقات السلمية مع إسرائيل،
ثانيا، هناك مشاريع تنموية كبرى ــ ومنها، مثلا، قناة الأحمر ــ الميت ــ مجمدة بسبب الرفض الإسرائيلي أو بسبب اصرار إسرائيل على الشراكة فيها. وهو ما يعني أن المشروع التنموي الوطني الأردني أصبح رهينة لدى الإسرائيليين، إلى أمد غير منظور،
ثالثا، إن الدولة الأردنية في مسيس الحاجة إلى التوحّد ونبذ التفتيت وإغلاق ملفات التجنيس والتوطين والحقوق المنقوصة، وهو ما لا يمكن القيام به من دون مواجهة مع العدو المشترك الوحيد لجميع الأردنيين.