جملة واحدة أنهت بها مجموعة من المثقفين والناشطين السوريين اجتماعها الطويل على شواطئ بيروت. المنارة وحدها كانت شاهدة على يأسهم... أسدلوا الستار على سجالهم بجملة واحدة تقول: وداعاً دمشق. فالأخبار الواردة من عاصمة الأمويين لا تسرّ عدواً ولا صديقاً. على الرغم من تقدّم طلائع الجيش السوري وإطلاقها عملية «القصاص العادل»، التي كانت ضربة استباقية لحشد المعارضة المسلحة عدداً كبيراً من مقاتليها من أجل معركة تحرير دمشق، أو على الأقل حلبنتها _ بمعنى تحويلها إلى حلب ثانية _ ومحاولة تعطيل الحياة فيها. إلا أنّ كل ذلك لا ينفع برأي هؤلاء الناشطين السوريين في إنقاذ دمشق وانتشالها من الدرك الذي وصلت إليه، معتمدين برأيهم ذلك على سردنا لـ«فلاش باك» تقليدي لمحطات رحلتنا الأخيرة إلى عاصمة الياسمين، التي تحولت إلى ما يشبه الثكنة العسكرية. فمدينة البوابات السبع تغلق أبوابها باكراً جداً، وتتحول إلى مدينة أشباح عند الثامنة ليلاً رغم ازدحام الحركة فيها بشكل كبير خلال ساعات النهار ومواظبة الموظفين في كل دوائر الدولة على الدوام بشكل نظامي. لكن حتى خلال ساعات النهار، لا تمنع الشوارع والساحات المهمة من الانتشار المكثف لعشرات الحواجز التابعة للجيش والأمن السوري، لتبدو الشام كأنها قلعة النظام الحصينة التي يصعب _ إن لم يكن يستحيل _ إفلاتها من قبضته الحديدية. الرحلة من بيروت إلى دمشق تبدو طبيعة إلى حدّ كبير رغم العدد الكبير من الحواجز المنتشرة منذ مغادرة بوابة المصنع الحدودية. يكثّف الجيش السوري وجوده حتى في المنطقة الفاصلة بين البوابتين الحدوديتين، مخالفاً بذلك الأعراف والمواثيق الدولية، لكن الرسائل تبدو واضحة من تلك المخالفة: يريد النظام للطريق من دمشق إلى بيروت أن تبقى آمنة إلى الحد الأقصى، دون تعرضها لأي خطر، وهو ما يتم تحقيقه فعلاً على الأرض. وعندما نسأل أحد عناصر الجيش السوري عن سبب وضع الحواجز قبل منفذ الهجرة والجوازات السورية، يرد مبتسماً بالقول: لزيادة الضغط على المواطن عساه يكره الدولة أكثر فأكثر!
بعد الحدود، يجهّز السائق عدداً كبيراً من علب السجائر ذات النوعية الفاخرة، وينطلق ليتجاوز الازدحام للسيارات الواقفة عند نقاط التفتيش ويعبر من ناحية الخط العسكري المخصص لسيارات الجيش، وبعض السيارات الحكومية، وسيارات الإسعاف. وفور وصول العناصر يقدم علب سجائر مع مبلغ نقدي متواضع، ويكمل طريقه دون تعرضه لأي تفتيش، أو لفتح صندوق سيارته. ربما تكون تلك دلالة مصغرة عن عمليات التفجير التي تخترق العاصمة بين الفترة والأخرى. تصل سيارة الأجرة إلى دمشق ليبدو واضحاً السيطرة المحكمة لقوات النظام السورية على العاصمة بالمطلق، ليس بقوات الجيش النظامي والأجهزة الأمنية فقط، بل بظهور واضح لعناصر «جيش الدفاع الوطني» أو اللجان الشعبية التي نظمتها السلطات السورية. هكذا، يبدو تراجع سقوط القذائف عن العاصمة ومراكز النظام، رغم تورط قناة «العربية» من جديد في نقل أخبار كاذبة تؤكد فيها بدء الجيش الحر عمليات من شاكلة «زلزال دمشق» أو إمطار مراكز النظام بالقذائف، لكن على أرض الواقع لا تتسم هذه الأخبار بصدقية، خاصة بعد سيطرة الجيش النظامي على معظم أجزاء داريا في ريف دمشق المتاخمة لبساتين كفرسوسة، والقريبة من مطار المزة العسكري، والتي تعتبر مركز الثقل للمعارضة المسلحة في الريف. مقابل ذلك، تحاصر القوات النظامية الغوطة الشرقية وتغلق جميع المنافذ إليها، وتؤمن بشكل شبه كامل طريق مطار دمشق الدولي، كما أنها خاضت معارك شرسة على أوتوستراد دمشق _ حمص، خاصة بالقرب من القابون وحرستا ودوما، بعد محاولة المعارضة قطع الطرق المؤدية إلى دمشق تمهيداً لاقتحامها، لكن القوة المفرطة التي استخدمها النظام حالت دون ذلك. وجعلت الأمن يفرض حاجز عند «البانوراما» مدخل دمشق الشمالي، ويتبعه بقصف للأبنية التي تستخدم منها المعارضة إطلاق رصاص القناصة على «البولمانات» المتحركة على الطريق الدولية، علماً بأن «كراجات» الانطلاق إلى المنطقة الشمالية التي تقع في منطقة العباسيين (آخر شارع حلب) المتاخم لبساتين جوبر تتعرض لإطلاق رصاص كثيف واشتباكات حامية بين الجيشين النظامي والحر بشكل متفاوت، ما دفع السلطات السورية إلى تسيير الرحلات من خارج «الكراج»، إضافة إلى اعتراف بعض قوى المعارضة بتحقيق الجيش تقدماً في أكثر من محور، لكن مع ذلك يبدو أن الحسم العسكري للجيش السوري صعب المنال. لتبقى الاستراتيجية التي يتبعها النظام هي تحصين دمشق من خلال فرض أكبر طوق أمان حولها في الريف، وحماية مطار المزة العسكري الذي يعتبر نقطة مهمة لوصول المؤن وتحرّك الطائرات الحربية، والعمل على تأمين الطرق الدولية وإبقاء الصراع في الأماكن المتوترة على ما هو عليه، رغم الحديث المؤكد عن حشد هائل لمدرعات النظام لمحاولة حسم الصراع بشكل نهائي في عاصمة الشمال حلب.