دمشق | مزهوّاً، بدا العقيد محمود سليمان رئيس «المجلس العسكري الثوري في إدلب» التابع للمعارضة السورية من على قناة «الجزيرة». وقف سليمان في 23 تشرين الأول 2012، وحدّد هدف مسلّحيه في ما سماها معركة «البنيان المرصوص»: حصار معسكريْ وادي الضيف والحميديّة على بعد نصف كيلومتر من بلدة معرّة النعمان، والقضاء على أقوى معاقل الجيش السوري في محافظة إدلب، وقطع الطريق الدولي بين دمشق ومدينة حلب والشمال السوري عموماً.في منتصف شباط الماضي، أي بعد نصف عام، اختفى سليمان، وظهر العقيد هيثم نعيسي قائد «لواء شهداء معرة النعمان» ببذلته الصحراوية، مؤكّداً اشتداد حصار مسلّحي المعارضة السورية حول وادي الضيف، متوعّداً بحسم المعركة قريباً.
قبل 20 يوماً، فكّ الجيش السوري الطوق الذي ضربه مسلّحو المعارضة السورية على المعسكر، في واحدة من أقسى المعارك التي خاضها الجيش في حربه ضدّ المسلّحين، وواحد من أهم انجازات الجيش التي سطّرها الواحد تلو الآخر في الأشهر الأخيرة الماضية.
حين تسمع ضابطاً كبيراً في الجيش السوري يهاتف قائد الكتيبة التي صمدت تحت حصار خانق أكثر من ثمانية أشهر، تدرك حجم التأثير المعنوي الذي أنجزه وادي الضّيف. المعركة بالنسبة إلى عدد من كبار قادة الجيش السوري الميدانيين هي «ملحمة» تختلط فيها البطولة بالوطنية بالجنون والإرادة.
يعتزّ أحد المصادر العسكرية السورية حين يحدّث «الأخبار» عن أنّ كتيبة من 250 جندياً سورياً وبضعة ضبّاط وقائدهم مع خمس دبابات، صمدوا منذ بداية شهر أيلول الماضي تحت حصار مطبق من قبل الآلاف من مقاتلي «لواء أحفاد الأمة» و«كتائب شهداء المعرّة» وكتيبة «شهداء التوحيد» وكتيبة «أحرار الشام». ويؤكّد المصدر أنّ أبرز قادة مسلّحي المعارضة الذين حاصروا وادي الضيف هم جمال معروف، وأحمد الشيخ، وعيسى أبو عيسى، والعقيد المنشقّ أحمد عفيفي والشيخ أحمد علوان، وبين المقاتلين شيشانيون ويمنيون وتونسيون وسوريون وأفغان وأتراك، وبريطانِيَان اثنان.
اصرار المعارضين على احتلال المعسكر هدفه واضح: قطع الطريق نهائيّاً على الجيش السوري باتجاه الشمال، وشلّ صلة وصله بين دمشق وحلب، وخصوصاً في ضوء المعارك التي تشهدها المدينة. وبحسب وافدين من معركة تحرير معسكر وادي الضّيف، فإن حرم المعسكر يضمّ خزّانات ضخمة تحت سطح الأرض، تحوي أكثر من 5 ملايين ليتر من الوقود الاحتياطي.
بعد تشديد الحصار على المعسكر، أبلغت القيادة قائد الكتيبة وحماية المعسكر أن هناك صعوبة كبيرة في إبقاء خطوط الإمداد، وأنه قد يأتي الوقت وينقطع الإمداد على نحو نهائي بسبب سيطرة المسلّحين على أجزاء واسعة من الطريق، وقد تضطّر الكتيبة إلى الانسحاب حفاظاً على حياة الجنود. لم تقبل الحامية الانسحاب، ويقول المصدر إن قائد الكتيبة أبلغ قيادته أن انسحابه وجنوده أمر غير وارد، وأن سيطرة المسلّحين على المعسكر لن تمرّ إلّا فوق جثث 250 جندياً وضابطاً سورياً.
كيف صمد المعسكر كلّ هذا الوقت؟ يبتسم أحد المصادر العائد من وادي الضيف، «هي الإرادة أوّلاً، وتعاون أهالي القرى المحيطة ثانياً»، يقول. إذ بقي المعسكر من دون إمداد فترات طويلة، بعد تعذّر انزال المروحيّات الأطعمة والأغذية إليه بسبب استهدافها برشاشات الـ«شيلكا» ورشاشات الـ«14 ونصف»، وقد أخطات الطوافات مراراً عدّة تحت ضغط النيران باسقاط الإمدادات والمؤن خارج حرم المعسكر، في بقع يسيطر عليها المسلّحون.
لم تمرّ أيام الحصار على الجنود وحدهم. اقتسم أهالي القرى القريبة معهم ما جمعوه من الحنطة في «أيام الخير»، حتى إن إحدى العائلات عملت على تنفيذ مهمّات كبيرة للجيش عبر استطلاع الطرقات لرصد العبوات الناسفة التي يزرعها المسلّحون، ومرافقة الجيش ليلاً لتفكيكها.
«نصف المعركة معنويّات، هؤلاء أبطال بحقّ»، يروي المصدر العسكري. يرى أكثر من ضابط أن جنود وضباط معركة وادي الضيف شهداء أحياء، قرّروا الموت في سبيل موقعهم، بغضّ النظر إن كان الجيش سيتمكّن من فكّ الحصار عنهم، «بعض الأبطال يرحلون ويأخذون رواياتهم معهم». في وادي الضّيف، هناك من بقي حيّاً ليخبر رفاقه الجنود والضباط عن أبطال رحلوا، ومعارك خاضها جنود بلحم حيّ، وإرادة.