في ديوانه «المخامر الأخير»، يستهل الشاعر السوري الشاب وائل سعد الدين قصيدته فوضى بالقول: «رمتني موجة أخرى... وعدت إليك مرتجفاً بلا رمل يدثر رجفتي الأولى... فهل زنديك التحف أمد الظل أوردتي ألملم خيبتي بالرمل... أمشي دونما لون هو اللالون مرات».
ربما تلك أقسى «جريمة» يمكن أن يرتكبها الشاعر الشاب، فالشعر هو سلاحه الوحيد، والكلمة هي حد سيفه الذي يضرب بها يمنة ويسرة دون تلكؤ أو خوف. وعندما يعرف عن نفسه يقول: «أنا صعلوك قادم من أقذر خمارات دمشق»، لكن كل ذلك لن ينفع أو يجد آذاناً صاغية، فنظام البعث عوّدنا عبر أكثر من خمسة عقود مرّت أن ترهبه الكلمة أكثر من الرصاصة، وأن يزلزل عرشه الرأي السديد أكثر من المحاباة، وأن تهز أركانه الجرأة أكثر من الخنوع.
بعد نشاط كلامي وفكري علني لسعد الدين، الذي عرف عنه معارضته الشرسة للنظام منذ اندلاع الأزمة، قرّرت الذراع الأمنية الحاكمة في سوريا أن تعتقله من منزله في دمشق مساء أول من أمس، وعلمت «الأخبار» أنه اقتيد إلى فرع الأمن العسكري في منطقة القزاز، علماً أنه نشر منذ فترة على صفحته الخاصة صوراً مع عناصر الجيش الحر وهو يحمل السلاح.
تبع ذلك دهم عناصر الأمن لمقهى ساروجة الشهير في دمشق القديمة، وألقي القبض على مجموعة من الناشطين الشباب هم: أحمد زغلول، بشار فرحات، معاذ الفرا، ميساء صالح، شيار خليل، وعد الجرف، لينا الصمودي، أماني إبراهيم، أسامة عزو، والممثلة ندى الجندي. لكن بعد 12 ساعة تماماً، أطلق سراح الجرف والصمودي وإبراهيم والجندي، لثبوت براءتهم من أي إدانة، وبسبب وجودهم مع زملائهم الذين غالباً ما ستنسب إليهم تهم التحريض على العنف ضد الدولة، ومن يدري فقد يُحاكَمون تحت بنود قانون الإرهاب وتعاد «الكليشيه» الأمنية الجاهزة التي يواجه بها أي معتقل رأي، وهي: وهن نفسية الأمة ومحاولة إضعاف الشعور القومي! إلى ذلك الوقت، سيكون من الصعب معرفة مصير الشباب السوريين الذين سيكونون في ضيافة الجلاد وعتمة سجونه.
طبعاً الخطوة ليست غريبة، ما دام الناشطون الذين عرف عن غالبيتهم آراؤهم المعارضة للنظام وأفعاله الإجرامية يلحقون بعدد من المثقفين والفنانين والصحافيين الذين سبقوهم إلى أقبية التعذيب، منذ زمن طويل وما زالوا هناك، ومنهم الممثل والمخرج المسرحي زكي كورديللو وابنه طالب المعهد العالي للفنون المسرحية مهيار كورديللو، والسيناريست الشاب عدنان الزراعي والصحافيان شذى المدى ومهند عمر، إضافة إلى مدير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير مازن درويش ورفاقه. وعلى جناح السرعة كانت صفحات تنسيقيات الثورة حاضرة لتنقل خبر الاعتقال، لكن كما هي العادة دون التأكد أو إعطاء أي تفاصيل دقيقة، ودون تحديث الخبر بنشر أسماء الذين أُفرج عنهم. بمقابل ذلك، حظيَ صاحب «المخامر الأخير» بحملة تضامنية على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما خاطبه صديقه الكاتب والصحافي الفلسطيني متولي أبو ناصر عبر «الأخبار» فقال: «بينما كنت تعيش حياة عشق مع حانات وأزقة دمشق القديمة، كنا نستمع إلى شعرك في تلك الليالي الجميلة التي تشبه روحك، وشعر بجمال عاصمة
الياسمين».
بينما نظم الشاعر الشاب فادي جومر قصيدة شعر محكي أهداه له وقال فيه: «بغيبتك...
رح نام ع رصيف الـ كبر ع خطوتك... بغيبتك... فاق العرق من سكرتك بغيبتك ما عاد عم يخلص سهر ضجّ السهر من سهرتك في شام عم تنطر نبي متلك في ناس في أهلك وآخر طريق الليل يا خيّ في صوت يندهلك... واقف مدى الحرة بنتك بلد أمك بلد كاسك بلد صوتك بلد و الـ مركب المرّة وبعرف.. أنا روحك لو كان يرجع هالوقت كنّا رح نعيدا ونقول سوريا حتى ألف مرة».
وأطلقت مجموعة من المثقفين السوريين بياناً مفتوحاً لجمع تواقيع من كل العالم لمطالبة النظام السوري بالكشف عن مثقفين يعتقلهم، وقد وقّعته الممثلة مي سكاف ومجموعة من الأسماء تجاوز عددهم مائة
شخص.
أي قدر هذا الذي ينتظر الشعب السوري، وأية حرية تلك التي ثاروا من أجلها؟ فلا يكادون يفلتون من براثن نظام أمعن في استبدادهم وقمعهم، حتى تتلقاهم جحافل جماعات متأسلمة تتفنن في أصول التعذيب والذبح، وكأن الشعر في سوريا يخلق هذه الأيام ليكتب على جدران الزنازين وشواهد القبور!