تضمّن الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء، منذ ظهيرة الأربعاء الماضي، حول حديث الرئيس بشار الأسد، المرتقب لقناة «الإخبارية السورية»، مقتطفات سوف يكشفها الأسد حول الدور الأردني في سوريا. وهو ما اجتذب مشاهدات كثيفة للحديث المنتظَر، وخصوصاً أن الناطق باسم الحكومة الأردنية، الوزير محمد المومني، كان قد أعلن، مساء، في تصريح غير مسبوق، اقتراب وصول 200 جندي أميركي إلى البلاد في إطار التعاون الثنائي «في ظل التحديات الأمنية والتداعيات التي تنتج من الأزمة السورية، وذلك في سياق التدريب والعمليات المشتركة».
عناصر المشهد اكتملت، واهتزت، فجأة، ثقة الأردنيين بأنّ بلدهم لا يزال آمناً من التورّط في البلد التوأم. الآن، أصبحت الاحتمالات مفتوحة. وبينما بدأت أطراف عديدة في الحركة الوطنية الأردنية، جاذبةً إليها قوى تقليدية مناوئة لأيّ تدخل أردني في سوريا، التباحث وتحديد موقف وفعاليات لمواجهة الاستحقاق المطروح، بادر المومني، أمس، إلى التنصل من تصريحاته السابقة، فأعلن أن «موقف المملكة مما يجري في سوريا لم يتغير. وهو ثابت ضد أي تدخل عسكري. ويدعو إلى حلّ سياسي شامل». ثم تلاه بيان صارم من القيادة العامة للجيش الأردني، أكّد أن استقبال الجنود الأميركيين «لا علاقة له بالوضع القائم في سوريا»، وإنما يأتي «في إطار الاستعداد لمناورات الأسد المتأهب الدورية، بمشاركة 19 دولة شقيقة وصديقة، والتي ستتم علنا وبحضور وسائل الإعلام».

شهادة هاغل

ما هي الحقيقة؟ سنأخذها مباشرة من شهادة وزير الدفاع الأميركي، تشاك هاغل، أمام الكونغرس، الأربعاء، حين أعلن أنّ البنتاغون سوف «يرسل 200 عسكري أميركي لمساعدة الجيش الأردني على التعامل مع اللاجئين السوريين، والاستعداد لاحتمال استخدام الغاز السام وتوفير القيادة والسيطرة لعمليات الاستقرار، لاحتواء مرحلة ما بعد الأسد». وكشف هاغل أنّ هؤلاء العسكريين سوف يحلّون محل 150 عسكرياً أميركياً أسسوا العام الماضي، في الأردن، محطة متخصصة (آد هوك) في الاستخبارات والاتصالات ومراقبة الوضع عن كثب وتحديد الاحتمالات في سوريا.
حتى أواخر العام 2012، كان تسلل المقاتلين من الأردن إلى سوريا، مقتصراً على بضع مئات من السلفيين الجهاديين الذين يرى مصدر سوري مطلع أنّهم لم يحظوا برعاية رسمية، وإنما في إطار متنوع من غض الطرف والاعتقالات. وكان الهدف هو، حسب الاتهامات التي وجهها محامي السلفيين الجهاديين في الأردن، موسى العبدللات، إلى الاستخبارات، هو محاولة اختراق «جبهة النصرة» أمنياً. لكن، بالمقابل، ظلت السياسة الأمنية العامة هي مطاردة السلفيين الجهاديين، ولطالما وقعت معهم اشتباكات على نقاط الحدود غير الشرعية، كما أن السلطات أجرت، بين صفوفهم، اعتقالات دورية. ومن المرجح أنّ في سوريا الآن أكثر من 500 جهادي أردني لم يعتبر السوريون، يوماً، أنّ عمان مسؤولة، بالفعل، عن قدومهم. لكن دمشق لاحظت، مطلع العام الحالي، أنّ شيئاً ما يحدث ويتعلق بتدريب «جنود سوريين منشقين وعناصر من الإخوان المسلمين في معسكر خاص في الأردن، وأن بعضهم بدأ بالتسلل، تحت الرعاية الرسمية، إلى الأراضي السورية».

المقداد ومملوك في عمان

وفي 31 كانون الثاني، زار نائب وزير الخارجية السورية، فيصل المقداد عمّان، والتقى بنظيره الأردني، ناصر جودة، وبمدير مكتب الملك عبدالله الثاني، عماد فاخوري (ولم يلتق الملك الذي كان في رحلة إلى خارج البلاد). وأبلغ مقداد المسؤولين الأردنيين بالمعطيات السورية المتوفرة، وطلب إيضاحات، في إطار «مباحثات ودية للغاية». الجانب الأردني لم يكتف بالنفي، وإنما أكّد ثبات الموقف الأردني الرافض للتدخل في سوريا أو إرسال المسلحين والسلاح إليها، وحرصه على حل سلمي يضمن سيادة ووحدة الجمهورية العربية السورية.
غير أن شهري شباط وآذار، شهدا تدفّقات غير مسبوقة من المقاتلين المسلحين وشحنات الأسلحة المتوسطة، ومن بينها مضادات للدروع والطيران ــ محمولة على الكتف ــ ما حدا دمشق إلى إرسال مدير مكتب الأمن الوطني (القومي سابقاً)، اللواء علي مملوك في زيارة سرية إلى عمان، في 17 آذار الماضي، للقاء مدير الاستخبارات الأردنية، فيصل الشوبكي، لبحث المشكلة معه، والتوصل إلى حلّ إيجابي.
اختيار القيادة السورية للواء علي مملوك ــ تحديداً ــ نمّ عن رغبة بالتفاهم الودي والمهني بين الطرفين. فمملوك كان مديراً للمخابرات السورية، وعلى علاقة طيبة وحميمة ومهنية بنظيره الأردني المعروف برفضه لأي تدخلات في سوريا، وتقويمه السلبي للغاية للجماعات السورية المسلحة وفصائل المعارضة السورية، ومخاوفه من انعكاس التمدد الإرهابي في سوريا على الأردن.
وضع مملوك مضيفه الأردني في صورة المعطيات الدقيقة المتوفرة لدى دمشق، من انقلاب موقف عمان إزاء التدخل في سوريا. وجاء الرد، مرة أخرى، بالنفي التام، والتأكيد على أن البلدين يتعرضان للخطر الإرهابي نفسه، وأن السياسة الأمنية الأردنية لم تتغيّر إطلاقاً في رفض أيّ تدخلات من هذا النوع في سوريا.
المعطيات السورية، حسب مصدر رفيع رفض ذكر اسمه، هي الآتية: إن الأردنيين افتتحوا معسكرات لتدريب تتسع لـ5000 جندي واخواني سوري، لكن الذين جرى تدريبهم بالفعل هم 3000 مقاتل، وصل إلى سوريا، منطقة درعا، منهم، 1560 مقاتلاً مدججين بالسلاح، بما في ذلك أسلحة كتف مضادة للدروع والطائرات، قبل منتصف آذار الماضي، عبر 13 منفذاً حدودياً غير شرعي بين الأردن وسوريا. ولاحظ المصدر السوري أنّ إرسال المسلحين والسلاح قد تضاءل أو حتى توقّف بعد زيارة مملوك لعمّان. ولم نستطع التوصل إلى معلومات حول ما إذا حدث تفاهم بين الطرفين الأمنيين اللذين اتسمت مباحثاتهما بروح ودية.

قناة الفريج - الزبن

لكن قناة الاتصالات الرئيسية، التي لم يذكرها الرئيس الأسد في حديثه، والمؤمَّل منها ضبط الانزلاق إلى المواجهة بين البلدين، هي القناة العسكرية الدائمة والحثيثة بين وزير الدفاع السوري، نائب القائد العام للقوات المسلحة، العماد فهد جاسم الفريج، ورئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأردني، الفريق أول الركن مشعل الزبن. وربما تكون هذه القناة هي الأهم بين البلدين.
الفريج والزبن، عسكريان محترفان، ويحظيان بالاحترام في بلديهما، وينتميان كلاهما، إلى عشيرتين بدويتين كبيرتين. وهو ما يؤسس لعلاقة مهنية وصريحة وتخلو من اللغة الدبلوماسية والظلال الأمنية. وهكذا، فإن الشيء الثابت الذي يؤكده السوريون أن الالتزامات القومية للجيش العربي الأردني لن تسمح أبداً بتدخل عسكري أردني في سوريا. إلا أن فريج أراد، في أواخر آذار المنصرم، أن يوصل إلى عمان، عبر رفيقه في السلاح، رسالة واضحة تقطع الشك باليقين، مفادها، حسب المصدر السوري، «أن الجيش العربي السوري سيكون مضطراً للدفاع عن بلاده وأمنها إزاء التدخلات وتهريب المسلحين والسلاح، داخل الأراضي السورية وخارجها». وبذلك، يكون المستوى السياسي الأردني قد أخذ علماً بالقرار العسكري السوري الذي يأمل، مع ذلك، تلافي أي اشتباك بين الجيشين الشقيقين اللذين خاضا معاً معركة تشرين 1973.
لكن ينبغي التنبيه، هنا، إلى أنّ تحذير الأسد للمسؤولين الأردنيين من أن «النار لن تقف عند حدودنا»، لا يقع في إطار رسالة فريج للزبن، وإنما يقع في باب الحرص على أن إقدام المسؤولين الأردنيين على تدريب وتسليح مقاتلين وإرسالهم إلى سوريا، سوف يرتدّ على أمن الأردن، من خلال التغذية الإرهابية الراجعة؛ ذلك أن استمرار هذه العمليات سوف يؤدي إلى حالة من الفوضى على الحدود الأردنية ــ السورية، تقود إلى انتقال الإرهابيين إلى تنفيذ مخططاتهم بشأن الأردن، كما هو حادث في سوريا.
في حديث مع السفير السوري لدى عمان، بهجت سليمان، أوضح أنّ تأكيدات المسؤولين الأردنيين القائلة إنّ الجيش الأردني لن يتدخل في سوريا، هي واقعية لثلاثة أسباب هي «أولاً، أنّ الجيش العربي الأردني هو جيش وطني، وليس في عقيدته القتالية الوطنية، ما يسمح بانجراره إلى عمل عسكري ضد سوريا، وثانيهما أن القوى الوطنية والشعبية الأردنية ترفض رفضاً قاطعاً تورّط جيشها الوطني في أي اشتباك مع الجيش العربي السوري، وثالثاً أن توريط الجيش الأردني في الأزمة في سوريا، سيؤدي إلى إضعاف المقاومة الأردنية لمشروع الوطن البديل؛ فالجيش الأردني هو الضمانة الأساسية ضد هذا المشروع الصهيوني المدعوم أميركياً وقطرياً».
يمكننا أن نخلص، من كل ذلك، ووفقاً لمصادر أردنية وسورية، إلى أنّ التدخلات الأردنية في سوريا، تكمن في الآتي: (1) محطة أميركية متخصصة في الاتصالات والرصد، قوامها 200 عسكري أميركي، لم يحتجّ عليها السوريون سابقاً، ربما لأنها تزوّد البنتاغون بالمجريات الفعلية على الأرض، (2) ومعسكر أو أكثر لتدريب متعاونين من الجنود المنشقين وعناصر من الإخوان المسلمين السوريين، انجزت تدريب 3000 مقاتل، تم ارسال 1560 منهم بالفعل إلى درعا، (3) وتهريب أسلحة فردية متوسطة، مضادة للدروع والطائرات، إلى سوريا. ولا تشكل هذه التدخلات حجماً مقلقاً للسوريين، إنما أرادوا أن يبادروا إلى ممارسة ضغوط دبلوماسية وأمنية وعسكرية، لوقفها عند هذا الحد، وعدم السماح بانزلاق يضرب مصالح البلدين.

ضغوط أميركية

وعلى المستوى الخارجي، لعب تبوّء جون كيري، المتحمس بدوره للضغط على الرئيس الأسد، منصب وزير الخارجية الأميركية، دوراً في ممارسة ضغوط هائلة على عمان، بالتزامن مع ضغوط مستمرة من المملكة العربية السعودية، في ظل وضع اقتصادي أردني بالغ الصعوبة. إلا أن الضغوط غير المعلنة تظل تتعلق بالوضع الاستراتيجي للبلاد، المهددة جدياً بخلايا أمنية نائمة، وامكانية إطلاق اليد القطرية لتفعيل « ربيع أردني»، ووضع عمان بين خياري أن تكون طرفاً في تحريك المفاوضات الإسرائيلية ــ الفلسطينية، أو أن يتم تهميشها، وما يتبع ذلك من مخاطر.
لم يصل إلى عمان، على الرغم من بدء انزياحها نحو التدخل في سوريا، سوى مليار دولار هي المخصصات التي قررها مجلس التعاون الخليجي لمشروعات محددة في البلاد، وهو مبلغ مودع لدى البنك المركزي ولا يدخل في باب الإنفاق، بينما تعتمد الخزينة على القسط الثاني من قرض صندوق النقد الدولي المشروط بإجراءات تقشفية قاسية، لتسديد التزاماتها نحو الموظفين والمتقاعدين ومطالبات المقاولين والمستشفيات وشركات الأدوية... إلخ، و400 مليون دولار مساعدة إضافية من السعودية، جرى استهلاكها فعلاً لاستيعاب أزمة فواتير الطاقة، وبينما وعد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مد الأردن بمنحة قدرها 200 مليون دولار، لمساعدته على استيعاب مشكلة اللاجئين السوريين، إلا أن هذه المنحة، حالها حال الطلب الأردني بضمانات قروض بقيمة أربعة مليارات دولار، متوقفة لدى الكونغرس الأميركي الذي وضع شروطاً قاسية للسماح بها تبدأ بتعديل قوانين سيادية حساسة كقانون الهجرة، وتمر بالضغط لتجنيس المزيد من فلسطينيي الضفة الغربية المحتلة وتعزيز الوضع السياسي للأردنيين من أصل فلسطيني، ولا تنتهي عند العمل على ممارسة الضغوط على نظام الرئيس بشار الأسد.
وسط كل ذلك، لا يزال تقدير مسؤول أردني كبير سابق أنّ الأردن لن ينزلق إلى تورّط خطير في سوريا، أولاً بسبب الممانعة الداخلية في صفوف قيادات الدولة وخارجها، أي على المستوى الشعبي، وثانياً، بسبب الخلافات العميقة داخل الولايات المتحدة نفسها ــ وهي الجهة الدولية الأكثر تأثيراً في القرار الأردني. ويلاحظ المسؤول الذي امتنع عن التصريح باسمه، ذلك التناقض الحاد بين شهادتي وزير الخارجية، جون كيري، ووزير الدفاع، تشاك هاغل، أمام الكونغرس، الأربعاء الماضي؛ فبينما ألح الأول على ضرورة دعم فرصة موجودة لتطوير وحدة وقوة معارضة سورية معتدلة يمكنها أن تكون بديلاً للنظام السوري، مؤكداً أن المعارضة المسلحة تحقق انجازات على الأرض، شكك هاغل في الجماعات المسلحة السورية المفككة والخاضعة لسيطرة الإرهابيين، وبقدرتها على الحسم، وشدد على مخاطر التدخل الأميركي في صراع طويل في سوريا. وبحسب المسؤول الأردني، فإنه سيكون بمقدور عمان، إن أرادت، استعادة القدرة على المناورة في ضوء الارتباك والخلافات داخل الإدارة الأميركية.



لماذا النقلة؟

السؤال الآن هو: ما الذي أحدث هذه النقلة في السياسة الأردنية؟ ويمكننا أن نجيب بالآتي: أولاً، أنّ الموقف الأردني عبر سنتي الأزمة كان مرتبكاً ومتذبذباً بما يعكس الصراع الداخلي في البلاد، بين (1) تيار يؤيد الدولة السورية، يدعمه تيار يتألف من قوى أساسية في البيروقراطية المدنية والعسكرية والأمنية والعشائر واليساريين والقوميين ــ أي جبهة القوى المصطفة موضوعياً ضد المشروع الإخواني، ويقابله (2) تيار آخر يتكون من الإخوان المسلمين ومجموعات التجنيس والتوطين والخلايا البيروقراطية المرتبطة بدوائر أميركية وسعودية وقطرية، وخصوصاً في وزارة الخارجية والديوان الملكي. وكان التيار الأول يتمتع بالقوة لفرض اتجاهاته نحو سوريا، المتوافقة، على كل حال، مع الرغبة المضمرة والعلنية للملك. لكن وقوع تطورين، داخلي وخارجي، جعلا التيار الثاني يندفع إلى الواجهة. داخلياً، حصل تيار التوطين والتجنيس على عدد وازن من المقاعد النيابية التي حوّلته إلى قوة فاعلة، لا تستحي من إعلان ولائها للرياض والدوحة.