ليس بالأمر المفاجئ أن تلعب دولة مثل السعودية، مثلاً، دوراً إقليمياً نافذاً ورائداً، فتُسقط أنظمة وتشيّد أخرى، وتحرّك اللاعبين السياسيين في ملاعبهم. لكن المفاجئ أن تمارس هذا الدور شبه جزيرة قطر، التي لا يتجاوز عدد سكانها نصف عدد سكان ضاحية بيروت الجنوبية.
تلك الجزيرة الصغيرة تملك، بفضل قوتها الاقتصادية الخارقة (انظر الكادر)، قوة سياسية وإعلامية وضعتها في مصاف الدول الإقليمية الكبرى. لديها في محطة «الجزيرة» امبراطورية إعلامية نجحت في تهييج الرأي العام العربي، باستثناء الخليجي، ضدّ أنظمة دكتاتورية هرمة. تتلقى الأحداث بحنكة سياسية فريدة، مكّنتها على مدى سنوات مضت من أن تُلاعب عدوين في ملعبها. وإن كان مهندس السياسة التركية، أحمد داوود أوغلو، قد روّج لسياسة «صفر مشاكل»، فإنّ نظيره واللاعب الملك في السياسة القطرية والإقليمية، حمد بن جاسم آل ثاني، كان قد اعتمد سياسة «صفر أعداء»، حين نجحت الإمارة الصغيرة في أن تجمع بين إسرائيل و«حماس»، وبين أميركا وإيران، وبين «طالبان» والغرب.
لكن رهانها على الربيع العربي بدّل سياستها تلك ووضعها في عين العاصفة. لقد اختارت قطر أن تكون طرفاً في الصراع، بين الشعب والحاكم، لكن ليس أي شعب؛ الإسلامي منه، حيث حضنت الحكام الجدد لأنظمة الربيع العربي. وإن كانت قد تروّت في تونس ثم مصر، في إصدار المواقف الرسمية الحاسمة، وأفسحت لماكينتها الإعلامية «الجزيرة» أن تقود المعركة عوضاً عنها، فإنّها في ليبيا قادت معركة عسكرية لإسقاط معمر القذافي، قبل أن تنصرف إلى الشأن السوري، حيث خسرت صفة «الالتباس» التي طبعت سياستها في الماضي، وذهبت الى أقصى التطرّف وخاضتها معركة مصير وكسر عظم، وحكت عن معادلة إما حمد وإما الأسد، في إشارة إلى الأمير حمد بن خليفة والرئيس السوري بشار الأسد.
لقد بات لقطر الآن أعداء، لا عدو واحد. وباتت تخوض الحرب في سوريا كرأس حربة بين المحورين المتصارعين على أراضي غيرهما وبأشخاص ليسوا لهما.
إذاً، لقد بدّلت قطر سياستها، وجعلت من «الإخوان المسلمين»، في كل مكان، ورقة «الجوكر» لتعزيز طموحها ونفوذها الإقليميين. وتبرز هذه الورقة في مصر أكثر، حيث مركز «الإخوان». لكن هذه الاستراتيجيا خلقت لها أيضاً أخصاماً من قلب البيت الخليجي؛ إخوانها الخليجيون، يتعاملون معها بحذر، ويكيلون لها الاتهامات، ولم يشفع لها غض النظر عن انتفاضة البحرين من أجل حماية «البيت الخليجي»، وكل ذلك بسبب دعمها الجماعة التي «تعتبر أخطر من إيران على أنظمتهم».

* الإخوان في قطر

قبل الدخول في الدعم القطري للإخوان، لا بد من الإشارة الى وجود الإخوان في الإمارة. لقد استوطن الإخوان المسلمون في قطر منذ الخمسينيات، كجزء من موجات اللجوء المتتالية الى دول الخليج. وفي عام 1999، قرّر الفرع الإخواني في قطر أن يحلّ نفسه تلقائياً. وبحلول 2003، كان الحلّ قد اكتمل. وبرّر الإخواني القطري، جاسم سلطان، هذا القرار بأنّ الدولة تقوم بواجباتها الدينية. وفي العام نفسه عُقدت سلسلة من اللقاءات بين ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، وشخصيات إخوانية رفيعة المستوى للتوصل في الامارات الى نتيجة مماثلة لما حصل في قطر. وانتهى بالاتفاق على أن تتابع جميعة «الإصلاح»، التي تأسست في 1970، عملها في الإمارات شرط وقف أنشطتها السياسية وتبعيتها للمرشد الأعلى للإخوان. كذلك وافقت الجمعية على وقف تجنيد عناصر من القوات المسلحة الإماراتية في صفوفها، لكن العلاقة ما لبثت أن انتكست لعدّة أسباب.
ما يميّز علاقة «الإخوان» بقطر عن باقي الأقطار الخليجية أنّ الإخوان نادراً ما يتدخلون في شؤون الإمارة؛ اتفاق ضمني يشبه الى حدّ ما الاتفاق القائم بين محطة «الجزيرة» ودولة قطر؛ فتغطية المحطة تشمل ما يحصل في معظم الأقطار العربية، باستثناء ما يجري في الدوحة، وما يعرض المصالح القطرية للخطر. لكن تأثيرهم يأتي بشكل غير مباشر، وهو فعال. صحيح أن الجماعة قامت بحلّ نفسها، ولم تنتقد النظام القطري، لكن عناصرها نجحوا في التغلغل داخل مؤسسات الدولة القطرية.

علاقات شخصية

تجمع قطر وبعض الشخصيات الإخوانية البارزة علاقات حميمة. ولعلّ أهم تلك الشخصيات يوسف القرضاوي، الداعية الإسلامي الذي يترأس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، ولديه برنامج تلفزيوني على قناة «الجزيرة» حول القوانين الإسلامية والشريعة. صحيح أن القرضاوي ليس عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، لكنه بمثابة أب روحي لها.
كما يبرز اسم هشام مرسي، الذي يحمل الجنسية البريطانية ويعيش في الدوحة، ويُقال إنه صهر القرضاوي. لقد نشط هشام بقوة في الثورة المصرية، وهو يدير منظمة تُعنى بوسائل اللاعنف، ويساهم في موقع «أكاديمي أوف تشانج»، الذي يموّله جاسم سلطان. ويبرز أيضاً وزير الخارجية التونسي، رفيق عبدالسلام، صهر زعيم «النهضة» راشد الغنوشي، والذي كان يترأس قسم الأبحاث والدراسات في مركز «الجزيرة» في الدوحة. وهناك أيضاً الليبي علي الشلبي، الذي وصفته وسائل الإعلام الغربية بأنه مهندس الحكومة المقبلة، وقد عاش في قطر سنوات. وقد ذُكر مرّة أنه طلب مساعدة القيادة القطرية خلال المرحلة الأولى من الثورة الليبية.
هذا إضافة الى تغلغل الإخوان ونفوذهم في «الجزيرة»، وقد عبر عن ذلك آلان غريش بقوله إن «الجزيرة هي ملعقة الإخوان». ويلاحظ أن المراكز الأساسية والحساسة في القناة تتولاها شخصيات إخوانية أو مرتبطة على الأقل بعلاقات حميمة مع الإخوان، مثل المدير العام السابق وضاح خنفر (إخوان الأردن)، ورئيس مكتب عمان ياسر أبو هلالة، ومقدم ومعد البرامج الشهير، أحمد منصور.

* دعم مالي وسياسي

وبفضل قوتها الاقتصادية، استقطبت الإمارة الأنظمة الإخوانية الجديدة بالمال. ففي مصر التي تقف على شفا هاوية، تعهد رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم بأنه لن يسمح بإفلاسها. وحوّلت دولته نحو 5 مليارات دولار الى مصر لإنقاذها من مأزقها المالي.
ورغم أن معظم الدول، ولا سيما الخليجية، رضخت لسقوط من سقط من حلفائها حتى الآن في الثورات العربية، وحاولت التصالح مع مخرجاتها، كان الدعم المالي القطري سبّاقاً ومتفاوتاً بشكل كبير. وفي مقارنة بين الاستثمارات الخليجية في مصر في فترة ما قبل الإخوان وما بعدهم، يلاحظ أن الاستثمارات الإماراتية كانت قد بلغت 5 مليارات دولار في مقابل 260 مليون دولار فقط لقطر إبان حكم حسني مبارك، فيما كان حجم الاستثمارات السعودية هو الأضخم ببلوغه 12مليار دولار.
ضعف الدعم المالي القطري في فترة ما قبل الإخوان يعود بشكل أساسي الى ضعف العلاقة بين قطر ونظام مبارك، والتي تدهورت على نحو كبير خصوصاً بعد انقلاب الأمير الحالي حمد آل ثاني على والده عام 1996. لكن الوضع تبدل مع وصول الإخوان، حيث أعلنت قطر أنها ستستثمر أكثر من 18 ملياراً خلال السنوات المقبلة. على عكس إخوانها الخليجيين.
دعم قطر لإخوان مصر أطلق العنان لدعمها حركة «حماس» الإخوانية، بحيث كان لها دور أساسي في فك ارتباط حركة المقاومة الفلسطينية مع إيران، وخصوصاً بعد الأزمة السورية، بسبب كرمها المالي والسياسي؛ فلقد احتضنت زعيم الحركة خالد مشعل، وقدمت له الرعاية والإقامة بعد انسحاب مكاتب «حماس» من دمشق. وأعطى الأمير نصراً سياسياً للحركة، حين أجرى زيارة للقطاع برفقة زوجته موزة، حاملاً بجعبته مشاريع استثمارية ومساعدات مالية بقيمة 250 مليون دولار، إضافة إلى عرض نفطي لاستثمار الثروة النفطية المكتشفة في غزة مقابل 500 مليون دولار.
ومع أن الدعم المالي يبرز أكثر في مصر وغزة، فإن قطر لم تبخل على تونس، حيث استثمرت في مشاريع طاقة بقيمة مليوني دولار. لكن هذا الدعم يختفي طبعاً في ليبيا، بما أنّها في غنى عنه، ويكفيها أنها حصلت على الدعم العسكري لإسقاط النظام، فضلاً عن الحصول على الرعاية السياسية.
إلا أن هذا الدعم ليس مجانياً. فإلى جانب الثمن السياسي، فإن قطر استحصلت من هذه الدول على مشاريع استثمارية، ولا تزال، بعشرات مليارات الدولارات، تضع اقتصاديات هذه الدول رهينة في يدها.

استياء خليجي

لقد دفع تبنّي إمارة قطر للإخوان المسلمين على هذا النحو الى استياء الدول الخليجية، وفي مقدّمها الإمارات والسعودية. والتناقضات الخليجية تجاه العديد من القضايا هي أمر مألوف وليس غريباً. قبل الربيع، كانت قطر وإيران تعيشان قصة حب، وهذا أثار امتعاض الدول الخليجية الأخرى، لكنه لم يرقَ الى مستوى حصول انشقاقات في العلاقة. إلا أنّها المرة الأولى التي تُقيم فيها دولة خليجية علاقات مميزة، بل تحتض وترعى جماعة تُجمع دول الخليج الأخرى على كونها خطراً على أنظمتها، بل أخطر من إيران نفسها عليهم.
وقد تُفسر العلاقة التي جمعت إيران وقطر من الناحية الاقتصادية، بما أنّ الاثنين يتقاسمان أكبر مخزون غازي في العالم، لكن تساؤلات تُطرح حول سرّ الحب القطري للإخوان، الى حدّ المخاطرة عبر تعريض علاقتها مع أشقائها الخليجيين للخطر. وهنا يرى مراقبون أن السياسة القطرية البراغماتية تريد أن تركب الثورات العربية وتعزّز نفوذها الإقليمي، لذلك وجدت في الإخوان حصان السبق الذي سيقودها الى الزعامة الإقليمية.

لماذا يخشى الخليجيون الإخوان؟

الموقف الخليجي الحذر من الإخوان يعود الى بداية التسعينيات، حين وقفوا الى جانب صدام حسين في اجتياحه للكويت عام 1990. وربما هذا ما يفسر موقف الكويت من نظام الإخوان الحالي في مصر. فهي لم تقدّم لهم فلساً واحداً منذ خلفوا مبارك. وسبق لولي العهد السعودي الراحل، وزير الداخلية الأمير نايف، أن عبّر في عام 1992 عن خطر الإخوان بقوله «من دون أي تردّد أقول إن مشاكلنا، كل مشاكلنا، تأتي مباشرة من جماعة الإخوان المسلمين». وتتهم السعودية الإخوان بخيانتها بعدما استقبلتهم اثر طردهم من مصر ايام جمال عبدالناصر. والكره الخليجي للإخوان عامة هو علني وواضح، بل ومصحوب بالأفعال، من خلال ملاحقات هذه الدول للجمعيات التابعة للإخوان (كالإصلاح في الإمارات) والشخصيات الداعمة لهم.
وفي واحدة من مراحل رصّ صفوف المعارضة السورية وتشكيل الائتلاف المعارض، برزت معارضة سعودية واضحة للشخصيات الإخوانية.
وبسبب الرعاية القطرية للإخوان، حصل توتر خليجي_قطري في عدّة محطات. وإضافة الى الصحف الخليجية والسعودية التي تزخر أحياناً بمقالات وإشارات تعبر عن امتعاض واضح من قطر، كان هناك تصريحات وصلت في بعض الأحيان الى مستوى التهديد، وخصوصاً ما صدر عن ضاحي خلفان وردّه على يوسف القرضاوي. بل بلغ الأمر بالامارات حدّ تأسيس فضائية مهمتها الوحيدة محاربة الإخوان. وغير بعيد، شهدت إحدى جلسات البرلمان الجديد في الكويت (الذي قاطع انتخاباته الإسلاميون المتهمون بالارتباط مع قطر)، سجالاً حاداً تضمن اتهامات لرئيس وزراء قطر شخصياً باحتضان الإخوان وتحريضهم على زعزعة استقرار الأنظمة الخليجية.
ورغم الأمثلة الكثيرة التي تعكس هذا التوتر، حرصت قطر في كل مرّة على طمأنة الخليجيين واحتواء الخلاف. في أيار 2012، قال القرضاوي على «الجزيرة» إنّ دول الخليج ستلقى غضب الله بسبب ترحيلها سوريين الى مصر، فسارع الأمير في اليوم التالي بالسفر الى أبو ظبي، في زيارة غير معلنة، ليطمئن حكام الإمارات الى الروابط الوثيقة بين قطر وبينهم.
سياسة قطر في الخليج اليوم تحديداً، تعدّ امتداداً لمدرستها السياسية، التحالف مع عدوين؛ فهي ترتبط مع أشقائها الخليجيين في حلف وثيق لحماية البيت الخليجي، وفي الوقت نفسه ترعى الإخوان. لكن خارج الخليج، تمارس لعبة جديدة، تضعها في عين العاصفة، وتدخلها في نوع من المغامرة الانتحارية.



صغيرة وهائلة

قطر، جزيرة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 11 ألفاً و517 كيلومتراً مربعاً، أكبر من لبنان ببضعة كيلومترات. وعدد ساكنيها لا يتجاوز مليوناً و900 ألف نسمة، 80 في المئة منهم عرب وأجانب، و20 في المئة فقط قطريون (أي ما يعادل 190ألف شخص).
لكنّ هذه الإمارة الخليجية الصغيرة تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث نصيب دخل الفرد فيها، والذي يقدّر بـ88 ألفاً و222دولاراً سنوياً، وفقاً لجدول مجلة «فوربس» (عام 2012)، والثانية حسب إحصاءات المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2012، بدخل يتجاوز 98 ألف دولار سنوياً.
وهي ثالث أكبر مصدّر للغاز في العالم. تبلغ احتياطات الغاز لديها 900 تريليون قدم مكعب (أي ما يعادل 14 في المئة من الاحتياطي العالمي). ومع اكتشاف حقل جديد عُرف باسم «بلوك 4 نورث»، يحوي 2 ونصف التريليون، ربما تصبح قطر أكبر مصدر للغاز. تتجاوز موازنتها السنوية 206 مليارات ريال (أكثر من 54 مليار دولار لعام 2012_2013). وقد بلغ فائض الموازنة في الربع الثاني فقط من 2012: 2013.94.6 مليار ريال (أي 26مليار دولار!).