القاهرة | «أنا الحكومة، مفيش حكومة غيري أنا». أصبح هذا هو شعار الباعة الجوالين في ميدان التحرير، الذي امتلأ بالعشرات منهم، عقب ثورة 25 يناير. فكل ما كان ممنوعاً أثناء النظام السابق أصبح مباحاً الآن في وسط القاهرة، وجميع الاتجاهات التي تؤدي إلى ميدان التحرير وأحياء وسط القاهرة افترشها الباعة الجوالون ليؤسسوا دولتهم في المنطقة المحرمة عليهم سابقاً رغم أنف الجميع؛ حكومة ومعارضة، ثواراً وفلولاً. لكن الباعة الجوالين ليسوا وحدهم من أصبحوا ملاكاً غير شرعيين لميدان التحرير ومنطقة وسط البلد، فدوار ميدان التحرير الرئيسي تحول من مقر للمعتصمين السلميين الذين أقاموا فيه على مدى أشهر مطالبين بالتغيير، إلى مقر للبلطجية وأطفال الشوارع ممن لا يتجاوز عددهم الـ20 فرداً تقريباً.
وهؤلاء جميعاً لا أحد يستطيع أن يعترض على وجودهم داخل الميدان وفي مفترق مداخله بطريقة غير شرعية، بالرغم من أن أفعالهم تتم على مرمى من وزارة الداخلية، الكائنة على بعد أمتار من الميدان، بعدما فضلت الأخيرة أن تجلس على مقعد المتفرج على كل هذه الأحداث.
«الدولة» الناشئة في ميدان التحرير أصبحت تهدد أصحاب المحال التجارية في المنطقة بوصفهم الفئة الأكثر تضرراً مما يحدث من انتشار للعديد من الباعة الجوّالين، ما بين باعة الشاي أو الفول، أو علب السجائر والمناديل، وغيرهم.
ولذلك، فإن سياسة الصبر التي اعتمدها أصحاب المحال في المنطقة منذ فترة طويلة، انتهت في الأيام القليلة الماضية، إذ أدى قطع البلطجية لميدان التحرير والطرق المؤيدة إلى منطقة وسط البلد إلى اغضاب أصحاب المحال الذين عمدوا إلى طرد المعتصمين من الخيم وحرقها أول من أمس.
محمد، بائع متجول، وهو صاحب «نصبة» الشاي في الميدان. يقف يومياً بالقرب من محطة مترو «التحرير» وقد نصب فرشته لبيع المشروبات الساخنة بعدما وجد في التحرير قوت يومه عقب اندلاع ثورة 25 يناير. وبحكم وجوده اليومي في الميدان كان شاهداً أول من أمس على أحداث العنف التي حدثت. محمد، حاول أن ينأى بالباعة الجوّالين عن المسؤولية في أحداث أول من أمس. وقال لـ «الأخبار» إن «بلطجة المعتصمين هي السبب الرئيسي وراء حرق أصحاب المحالّ المجاورة للميدان خيامهم». ولم يتردد في ابداء رفض استمرار اعتصام من سماهم البلطجية في ميدان التحرير، لكونهم «العنصر الرئيسي في ابتعاد المواطنين عن النزول إلى الميدان»، ما يؤثر سلباً في عمله الذي يعتمد عليه لاعالة أسرته. فبينما ينجح في بعض الأيام في تحصيل «60 جنيهاً، وهو المبلغ الأعلى الذي يحصّله في نهاية يومه الذي يبدأ في التاسعة صباحاً ولا ينتهي إلا في العاشرة مساء، لا يحصل في أحيان أخرى على قرش واحد، بل يضطر إلى أن الاستدانة من أحد الباعة زملائه ليعود ليلاً إلى منزله».
بدوره، يقول محمود، صاحب عربة العصائر التي تحوي سوبيا وعرقسوس وتمر، وهي أشهر المشروبات المصرية، إنه اضطر إلى نقل عربته، التي تعد بمثابة مصدر رزقه الوحيد، من منطقة باب اللوق إلى ميدان التحرير بسبب امتناع المواطنين عن الوصول إلى منطقته السابقة بفعل الإقفال المتكرر للمنطقة.
حال محمود، الذي ترك أسرته ومنزله في صعيد مصر ليعمل في القاهرة، لم يتغير بالرغم من مرور عامين على الثورة، وهو ما جعله يتمسك بأمنية وحيدة «العودة إلى عصر الأمن حيث لا بلطجة ولا عنف صريحاً يحدث في وضح النهار وثنايا الليل».
محاولات نفي الباعة الجوالين اي تورط لهم في التأثير على الميدان والشوارع المحيطة به، تدحضها على المقلب الآخر صرخات أصحاب المحال التجارية في منطقة وسط البلد، التي تحيط بالميدان. عامان وقرابة شهرين مرت على هؤلاء كأنها بضعة أعوام، فرزقهم قل وحالهم ضاق بهم ووصل الأمر إلى أن مبيعاتهم لم تعد تغطي نفقات الإيجار أو رواتب العاملين.
أحمد، أحد المستأجرين لمحل أجهزة كمبيوتر في مول البستان، أحد أشهر المولات التجارية في مصر، يقول إنه لم يعد يحتمل هذا الوضع. من وجهة نظره «البلطجية احتلوا ميدان التحرير باسم الثورة، ووضعوا أسلاكاً شائكة لمنع المواطنين من دخول الميدان، ما تسبب في وقف حركة البيع والشراء تماماً»، الأمر الذي جعله عاجزاً عن دفع إيجار محله البالغ 4 آلاف جنيه في الشهر، كما أنه قلل العمالة لكن بلا جدوى. أمام هذا الوضع، يعترف أحمد بأنه بلا مقدمات ذهب يوم الخميس الماضي إلى الدوار الموجود في ميدان التحرير، هو وجيرانه في محالّ المول، لـ«إيقاف هذه المهزلة وردع هؤلاء البلطجية، قاطعي الأرزاق، فهم أبعد ما يكونون عن الثورة أو ثوارها»، مشيراً إلى أنه شارك في اخراج المعتصمين وحرق الخيم.
من جهتها، ترى حنان فاروق، صاحبة محل عصير، أن «هذه ليست طريقة أو أسلوب اعتصام، هذه بلطجة تهدد أمن المنطقة». وترفض سيطرة هؤلاء على الميدان، مشيرةً إلى أن وجود الباعة الجوّالين في الميدان يشوه صورته، مطالبةً الأمن بالتدخل لإنهاء الأزمة برمتها.
هذا التبدل في هوية الموجودين في ميدان التحرير، باستثناء يوم الجمعة، الذي غالباً ما يشهد عودة المحتجين إليه للمشاركة في المليونيات، أكده الناشط معاذ عبد الكريم. عضو ائتلاف شباب الثورة المنحل، يرى أن الموجودين في الميدان مجموعة من المتسولين واللصوص وأطفال الشوارع. وأوضح أن «هناك من له مصلحة سياسية في إغلاق ميدان التحرير لمدة تزيد عن الستة أشهر بدون رفع أي مطالب اجتماعية أو سياسية»، مطالباً بضرورة فتح الميدان «ومن يرِد الاعتصام فليعتصم دون أن يضر بمصالح المواطنين، ودون إغلاق الميدان».
وفسر معاذ صمت الشرطة المصرية تجاه ما يجري، بأنها تعيش مرحلة محاولةً التعافي الآن، وتخشى أن تتدخل خوفاً من الابتزاز السياسي الذي يقوم به بعض السياسيين الآن بقولهم إن الداخلية أصبحت تابعة للسلطة الحاكمة، وتخضع لأوامرها. بالرغم من ذلك، طالب عبد الكريم وزارة الداخلية باتخاذ موقف حازم والتعامل مع هذة المسألة بحزم.