حلب | مع قدوم الربيع وارتفاع درجات الحرارة، اندفع الحلبيون مجدداً للانتشار كالنحل في أحياء مدينتهم الآمنة، التي انتقلت إليها معظم النشاطات والأسواق التجارية. بدأت الحياة تنبض من جديد في أوردة المدينة والإشراق يعود مجدداً إلى الوجوه المنهكة. اعتياد جوّ الحرب ومعاناتها بات سمة عامة للأهالي، وكثرة ممن اختاروا السفر إلى الخارج باتوا يتحدثون مع أقاربهم عبر الهاتف وشبكات التواصل الاجتماعي عن الفروق الكبيرة بين ما كانوا يعيشونه في حلب، وبين ما يعيشونه في مصر أو لبنان أو تركيا، ويفكرون في العودة أياً كانت الظروف.
الخبز توافر بكميات كافية في المدينة، وإن كان بسعر مضاعف مرات عدة عن سعره في المحافظات الأخرى، بعد «السماح لأصحاب الأفران بإمرار الطحين والمازوت مقابل أتاوات للجيش الحر»، وفق مصدر في المحافظة. الكهرباء تحسّنت نسبياً وتتناسب ساعات التقنين حسب الهجمات التي يشنها الجيش الحر والكتائب الإسلامية على منشآت توليد وتوزيع الطاقة الكهربائية.

خطوط التماس

خطوط تماس حقيقية باتت تفصل بين «حلبيْن» لكل منهما سماتها؛ في الأولى دوائر الدولة ومؤسساتها، وسلطتها التنفيذية وأسواقها التجارية الأهم، وفي الثانية مسلحون بأذرع قضائية باتت تشكل كابوساً تذكر بقسوته سنوات الثمانينيات التي يتذكرها الحلبيون بكثير من الألم.
الفاصل بين «الحلبين» هو نهر قويق، فغربي النهر كله تقريباً بيد السلطة، في حين أن شرقيه، شمال وجنوب المدينة بأيدي المسلحين. المحامي علاء السيد، أحد أبرز ناشطي المدينة في الحقل التطوعي والإنساني، كتب على صفحته في «فايسبوك» يصف الشرخ الذي تعيشه حلب: «حلب صارت حلبين... شرقية وغربية. آلاف المواطنين يعبرون يومياً بالاتجاهين فوق جسور متهاوية وضعت على عجل فوق المجرى في ظروف لا توصف. السرفيسات تصرخ: عالنهر عالنهر... شباب متطوعون يدعون (المقطعجية) يحملون الحقائب والأطفال لمساعدة النساء مجاناً».
بين حلب وحلب معبران على نهر قويق، أحدهما في بستان القصر والثاني في بستان الرز؛ الأول يحمل عبوره مخاطر كثيرة، في حين أنّ الثاني آمن نسبياً. وهو مقصد أهالي بقية الأحياء، الذين لا تغيب أحاديث معاناتهم تحت حكم الميليشيات عن مستضيفيهم في المقلب الآخر، وتوقهم إلى عودة الأمان والاستقرار إلى مناطقهم كما هي حال الأحياء التي لم تقع تحت سيطرة المسلحين.
القناص بات الشبح الأخطر لمواطني حلب. عشرات الضحايا الأبرياء سقطوا برصاص القناصة أثناء محاولاتهم عبور خطوط التماس، وأعداد أكبر سقطوا بالقذائف العشوائية التي تطلقها الميليشيات وبقصف الجيش الذي يستهدف مراكز المسلحين وتجمعاتهم ونقاط انتشارهم في تلك الأحياء.
الاحتماء بالمدنيين وتعريضهم للخطر بلغ أوجه في اتخاذ رهائن من الأطفال والنساء في مبنى النحاس في حيّ مساكن السبيل، والتهديد بقتلهم في حال لم يسمح لهم بالخروج من المنطقة. محنة هؤلاء المخطوفين انتهت بسماح الجيش للمسلحين الخاطفين بممر آمن.
تجربة الشهور الثمانية الفائتة أكدت لأهالي المدينة صوابية رفضهم لمنطق العنف. ورغم كل ما تعرضوا له، فإن تمسكهم بالدولة كمفهوم سيادي لا يزال قوياً، مع تبرمهم الشديد من تأخر الدولة في استعادة سيطرتها، وتراجع الخدمات العامة والأزمة المعيشية الخانقة، وضعف إمدادات وقود السيارات، والكهرباء، والطحين والغاز المنزلي.
تمسك غالبية المواطنين بالدولة «بعجرها وبجرها» وفق تعبير أيمن، وهو تاجر ألبسة، «لأنها الضمانة. لقد شاهدنا بصمت ما يجري في المحافظات الأخرى، وقفنا مع الإصلاح على أمل إقناع المتظاهرين والمعارضة بالتوقف عن سوق البلاد إلى الخراب، لم ينفع، فقد انتقل الخراب إلى حلب».

الوسط التجاري

ينقسم الوسط التجاري للمدينة كذلك بين الحلبيْن، فأسواق المدينة القديمة تحولت إلى ساحة حرب. متاجرها نهبت أو حرقت أو لم يعد من الممكن الوصول إليها، وعلى تخومها ينتشر الجيش السوري وخلفه الوسط التجاري الحديث الذي انتقلت فاعليات كثيرة إليه.
الحاج أبو محمد، الذي يملك متجراً لألعاب الأطفال، اعتاد أن يصلي الظهر في الجامع الأموي طيلة ستين سنة، قال: «بصمودنا كشفنا حقيقة أردوغان وحقيقة الربيع العربي. لم تشارك حلب في ثورة غامضة وعنيفة، ولم تعدنا بأي شيء، بل قالت اخرسوا حتى يسقط النظام، فأسقطت مؤسسات الدولة ومقومات الحياة ولم تسقط النظام».
أما قريبه المتململ من الأوضاع، المهندس فراس، فقال «نريد حلاً سريعاً، ما يجري لا يرضاه الكافر فكيف به الصديق، العرب والأتراك والسلطة والثوار كلهم لا يهمهم الشعب السوري، نريد أن يخرج الجميع من حلب ونحن سنعيد البناء على حسابنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل».
الطبيبة ضحى رأت أنّ «حكم العصابات كان هدية ثورة الحرية لحلب وأهلها. الصورة لم تعد تحتمل التزوير والكذب، نريد دولتنا السورية أن تبسط سيطرتها، ومن لديه رأي سياسي فليؤسّس حزباً، ويعمل تحت سقف القانون مثل كل دول العالم. نريد الدولة لأنها الأم والأب ولن يقف معنا أحد سوى الدولة».
يلاحظ المرء أنّ الهوية الطبقية تؤثر في رأي الناس السياسي؛ فشريحة الصناعيين والتجار تسودها أغلبية ساحقة تؤيد الإصلاح بقيادة الرئيس بشار الأسد، وتتفهم أبعاد عملية الجيش، في حين أنّ سكان الأحياء الشعبية المنحدرين من الريف الغربي والشمالي وريف إدلب ترتفع فيهم نسبة مؤيدي المسلحين، بعكس سكان الأحياء الشعبية المنحدرين من المناطق العشائرية شرق وجنوب المحافظة، وبعكس أحياء الطبقة الوسطى الذين تميل فئاتهم المعارضة إلى نبذ العنف ورفض التخريب باسم الثورة.

حكم الشريعة

الصراع بين قوى الثورة تصاعد في الآونة الأخيرة. الخلاف استشرى بين القوى الدينية وغير الدينية. لا قوى علمانية في الثورة السورية تجرؤ على إطلاق صفة علمانية على نفسها. ولم يعد للمصطلح استعمال إلا لدى قوة هامشية فيها، وذلك في معرض ذمّ السلطات السورية التي «تتاجر بالعلمانية».
بعد حادثة الناشط «أبو مريم»، الذي عوقب بالجلد لرميه راية إسلامية وهتافه للدولة المدنية ضد دولة الخلافة الإسلامية، تصاعد التوتر بين «الأذرع القضائية» للميليشيات بعد قيام «جبهة النصرة» بالاعتداء على «قضاة» مجلس القضاء الموحد والاستيلاء على المقر الحكومي المتخذ من قبلهم مركزاً لنشاطهم. اعتقال ما يسمى «قضاة مجلس القضاء الموحد» وضربهم وإذلالهم أثارت موجة من الاستنكار في صفوف القوى العلمانية والمدنية الداعمة للثورة، في حين دافع آخرون عن «الهيئة الشرعية» التي استعانت بمقاتلي «جبهة النصرة» للاستيلاء على المقر الحكومي، بأنها «تتعرض للتشويه والافتراء من قبل العلمانيين الكفرة نتيجة ازدياد نشاطها الإنساني والخدماتي، وجبهة النصرة هي وسيط بين الطرفين وتعرض تدخلها للتشويه».
وأخيراً أجرى ناشطون مقيمون في تركيا «انتخابات حرة ونزيهة» في غازي عين تاب لتعيين مجلس محلي لمحافظة حلب، بانتظار تشكيل المعارضة حكومة سورية مركزية، في خطوة رفضها المقاتلون المسيطرون على الأرض في الريف وفي أحياء حلب الشرقية والجنوبية الشرقية.
التنافس القطري _ السعودي على المجموعات المسلحة يجد تعبيراً عنه في الحرب الإعلامية التي تندلع بين الطرفين بين الحين والآخر، حيث تقوم الغرف الإعلامية على اختلاف تمويلها وتبعيتها بنشر «أخبار مسيئة» عن ممارسات الطرف الآخر؛ فالتابع للسعودية يصوّر «لواء التوحيد»، والأذرع المقاتلة التابعة له، بمرجعيتها الإخوانية وكأنها مسؤولة وحدها عن كل الأخطاء التي ترتكب باسم الثورة، في حين أن المتمولين من قطر، والمرتبطين بعلاقات مع الغرب، يهاجمون «جبهة النصرة» والهيئة الشرعية والقوى السلفية الجهادية الأخرى التي تلقى الدعم من السعودية وأمرائها، بأنها تسيء إلى الثورة وتفرض منهجها الديني المتطرف بالقوة.
لكنّ الطرفين باتا يتوحدان ضد مصطلح «الجيش الحر»، الذي أصبح شماعة تعلق عليها آلاف «الأخطاء الفردية» التي تقوم بها عشرات الكتائب والجماعات المسلحة.

المستشفيات والدوائر العامة

نسبة كبيرة من الأطباء الاختصاصيين غادروا حلب نتيجة التهديدات أو تراجعت مداخيلهم نتيجة نزوح السكان، والشريحة الباقية في المدينة معظمهم من الموظفين في مستشفيات وزارتيْ الصحة أو التعليم العالي.
مستشفيات كثيرة، عامة وخاصة، خرجت من الخدمة نتيجة المعارك، بعضها تعرض للقصف بعد تحوّله إلى مركز للمقاتلين كمستشفى دار الشفاء، أو للنسف في تفجيرات انتحارية كالمستشفى السوري الفرنسي، في حين بقي مستشفيا العيون التخصصي والأطفال في منأى عن التدمير، رغم تحولهما إلى مركزين لمقاتلي جبهة النصرة وللهيئة الشرعية.
تضطلع مستشفيات الرازي والجامعة والتوليد، وكلها حكومية، بالجزء الأكبر من الخدمات الطبية في المدينة، في حين تستخدم مستشفيات الريف الخاصة لعلاج المسلحين، إضافة إلى مستشفيات ميدانية إسعافية الطابع ينقل بعد ذلك المصابون إلى تركيا.
وتمّ نقل الدوائر الحكومية التي كانت في منطقة السبع بحرات إلى غرب المدينة الآمن، لكن محاكم المدينة بمعظمها لم تعد للعمل، الترافع فيها متوقف ومقتصر على إجراءات بسيطة في بعضها، كتسجيل حالات الزواج.
أقل من ربع مدارس المدينة تواصل التدريس، في حين عملت الميليشيات الإسلامية على افتتاح بعضها لتحفيظ القرآن والدروس الدينية، دون المنهاج التعليمي الرسمي.



تظاهرات مضادة

لم يطل الوقت كثيراً حتى أظهرت قطاعات شعبية في الأحياء التي دخلها المسلحون ضيقها ورفضها للواقع الجديد. النساء كنّ أول من جهر برفض المسلحين، فأحياء كالسكري، والقاطرجي، والصاخور، والحيدرية، والهلك، شهدت أمام الأفران هتافات مناهضة للمسلحين الذين كانوا يستحوذون على الخبز بسهولة وبكميات كبيرة.
الأمر تطور إلى خروج تظاهرات تهتف «الجيش الحر حرامي بدنا الجيش النظامي». ورغم محاولة القوى الأكثر أصولية ركوب موجة الاحتجاج الشعبي وتوجيه دفة التظاهرات المتبرمة من ممارسات «الجيش الحر» إلى مديح «الجيش الإسلامي»، فإن التظاهرات العفوية التي قامت بها النساء شجعت بعض المترددين من شبان التنسيقيات على تنظيم تظاهرات مناهضة للميليشيات. ولقطع الطريق على أيّ استفادة للنظام ممّا يجري هتفوا: «الجيش كلو حرامي نظامي وحر وإسلامي».