مهّد خروج بلدات الغوطة الشرقية عن سيطرة الدولة الطريق لـ«موجة» فتحت أبوابها في وجه محامي تلك البلدات. فبحسب المحامي نوار عجمية، ابن مدينة حرستا الذي اضطرته ظروفها إلى النزوح باتجاه دمشق، ساهم ارتفاع التصعيد في الغوطة في «ترقية الكثير من محاميها وتسميتهم قضاة بلا وجه حق. بدأ ذلك في المراحل الأولى تحت ضغط الحاجة إلى رادع قانوني في بلدات خرجت لتوّها من سيطرة الدولة السورية. ومع الوقت، تحول دور هؤلاء إلى مجرد غطاء قانوني لممارسات الفصائل العسكرية المعارضة في الغوطة؛ فاليوم، يمكننا ملاحظة أن كل الممارسات غير المقبولة بالشرائع جميعها، باتت تستند إلى ما يسمى أحكاماً قضائية، وعن طريق هيئات قضائية لا يعلم أحد كيف جرى تشكيلها».
الفصائل المسيطرة في الغوطة ترى أن الشريعة الإسلامية لا تقوْنَن

ومع اندماج عدد كبير من المحامين في العمل مع التنظيمات العسكرية في نواحي الغوطة الشرقية، تغيّرت الأسس المهنية التي اعتادها هؤلاء طويلاً. ويروي محمد زاهر (اسم مستعار)، وهو متخرّج في كلية الحقوق في جامعة دمشق منذ عام 2009: «محامون كثر كانت لديهم مشكلة أصلاً مع التشريع السوري الذي يحابي الشريعة الإسلامية، فينتقص من حق المرأة في المجتمع مثلاً، ورغم ذلك كنا نواجه هذا التشريع من خلال المؤتمرات الضاغطة والندوات التوعوية وغير ذلك»، لكن زاهر الذي وجد نفسه مجبراً منذ عام 2013 على البقاء في منزله في عربين، وتحت ضغط الحاجة، وافق على التعاون «قضائياً» مع «لواء أبي ذر الغفاري»، ليصبح واحداً من ممثلي «المجلس القضائي في الغوطة الشرقية»، قبل أن يعود إلى الاعتكاف في بيته إثر ضغوطات التنظيم عليه. «أحضروا أحد المراهقين بتهمة معاكسة الفتيات، فكان ردّي أن عليهم إطلاق سراحه فوراً، ويتركوا لي أمر توعيته. لكنهم رفضوا واستصدروا قراراً من المجلس القضائي يحكم بتعزيره (فضحه أمام الناس، وسجنه ثلاثة أشهر). رفضت الأمر، وتركت العمل معهم»، يقول لـ«الأخبار».

«عقل قضائي سلفي مدبر»

هو واحد من القضاة المتخرجين سابقاً في كلية الحقوق في جامعة دمشق. أبو يوسف، المعروف في بلدات الغوطة الشرقية بانتمائه إلى جماعات السلفية الجهادية، أوكلت إليه في أواخر عام 2012 مهمة بناء جسم قضائي في الغوطة الشرقية، حمل حينها اسم «الهيئة القضائية لمجلس الشورى»، التي انقسمت إلى عدة محاكم مختصة، بالاعتماد على توظيف المتخرّجين الحديثين من كلية الحقوق، وبعض الطلاب ممن لم يكملوا عامهم الثالث في الكلية.
حذف أبو يوسف جميع الفقرات في القانون السوري التي رآها «متعارضة مع أحكام الشريعة»، وفتح الباب واسعاً لـ«الاجتهاد الفقهي» أمام «القضاة» الجدد. وبعد ضغط من الحقوقيين في الغوطة، أقام هيئة شرعية وأخرى قضائية، مهمتهما البحث (كل على حدة) في الدعاوى القضائية «العامة والخاصة»، غير أنه لدى الخلاف بين الهيئة الشرعية، التي يسودها الطابع السلفي الجهادي المتعصب، والهيئة القضائية التي تعتمد على حديثي التخرج وغير المتخرّجين، تحال الدعوى إلى «هيئة ثالثة» تبتّ القضية، ويرأسها أبو يوسف ذاته!
للمفارقة، يبدو أبو يوسف «معتدلاً» مقارنة مع القيود التي تفرضها «الكتائب» العسكرية على «الهيئات القضائية»؛ ففي أكثر من بلدة داخل الغوطة الشرقية، سُيّرت دوريات عسكرية لاعتقال «ناشطين حقوقيين» و«قضائيين» تراهم فصائل عسكرية متشددة أنهم «علمانيون». ورغم حرصه الشديد على دحض هذه «التهمة» عنه، يؤكد المحامي، مالك حسين، أحد أبناء بلدة مسرابا، أن «القضاء بات رهينة لتلك الفصائل التي ترى أن الشريعة الإسلامية لا تقوْنَن، وأن السلطة العسكرية فوق كل السلطات». ويعقّب حسين: «كلمة قضاء في البلاد صارت مدعاة للضحك والسخرية. فهي أسيرة إما للّحى الطويلة والعقول الشحيحة، وإما للاستبداد العسكري الذي يستطيع فيه مراهق أن يحدد جرمك وطبيعته ويحاكمك باسم العدالة الثورية».