لا بد أنه جلس طويلاً أمام مرآته، يتأمل ملامحه. على الأرجح تعمّد ترك باب شرفة غرفة نومه مفتوحاً. أراد نسيم الصحراء أن يداعب عباءة الزعامة. لا قلق أمنياً يخامره، هو الممسك بشؤون البلاد والعباد. لعله تبختر كالطاووس على سجادته العجمية، مزهواً بنفسه وبإنجازاته. تعب النهار لم يثقل عليه. نشوة القوة مدّته بطاقة لا تنضب. أمور إمبراطوريته وشؤونها تشغل باله. لكن الطمأنينة لا تفارقه. هو واثق بعِلمه وكفاءته وحكمته، وبمستشاريه والمقربين منه... وأيضاً بآبار الغاز التي لا تنضب لديه.
كان نهاره حافلاً يوم أمس. جلس كالسلطان بين ولاته، يعطي التوجيهات لإدارة شؤون إمبراطوريته المترامية الأطراف. عرض «الرؤية» المستندة إلى «فكر» والمدعومة بـ«الإرادة». رفع شعار «الحرية والعدالة الاجتماعية والتضامن العربي». جمع جمال عبد الناصر وتوماس جيفرسون ومارتن لوثر في خطاب واحد. ذكّر الجميع بأن «فلسطين هي قضية العرب الأولى» وبرفضه لأي حل «لا يلبي كامل حقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمها إقامة دولته وعاصمتها القدس الشريف»، حيث «الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية غير قابلة للمساومة». قدر قيمتها بمليار دولار تبرع من جيبه بربع المبلغ.
عرض عقد قمة مصغرة في القاهرة لمصالحة الفلسطينيين وضمان إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تعيد اللحمة إلى أبناء الشعب الواحد. عرض مشكوراً (كثر الله من خيراته) أن تتولى مصر رئاستها، رغم أنها «تمر بمرحلة انتقالية تقتضي الدعم بحكم كثافة سكانها وأوضاعها الاقتصادية». كثافة تفتقدها إمارته السابقة، أو لنسمّها مسقط رأسه، حيث لطالما عيّره رئيس مصر السابق بأنها أشبه بـ«علبة كبريت»، أو على الأقل هذا ما فهمه من كلام حسني مبارك عندما زار قناة «الجزيرة» قبل سنوات. ومن لم يرَ ملامح محمود عباس هذه اللحظة لم يفهم شيئاً من كل ما قيل.
حال ولايته السورية تدمي قلبه. الإمبراطور حزين على «الشعب السوري، سليل الحضارة العريقة والثقافة الأصيلة والعروبة الصادقة». صفات ثلاث يفتقدها هو وإمارته. وحريص على «وحدة سوريا، أرضاً وشعباً». وحدة لو قدر لها أن تعود لما وجد موطئ قدم واحدة له في بلاد الشام. رأى أن الصمت عن المآسي هناك جريمة، وكأنه خبير اسكندينافي يدلي بدلوه، وليس طرفاً رئيساً، إن لم يكن الطرف الرئيسي المسبب لهذه المآسي. ومع ذلك، تبقى المفارقة الكبرى في مطالبته بإقامة «نظام لا عزل فيه ولا حجر ولا تمييز». كثيرة كانت العيون التي حدّقت به تسأله عن والده وما جرى له. الأنكى أنه أعطى لنفسه حق الأمر والنهي في شؤون الآخرين. تواضع وأعلن قبوله بـ«الحل السياسي» في سوريا، ولكن على «ألا يعيد عقارب الساعة إلى الوراء». لعله يقصد، على ما عبّر أحد الخبثاء، إلى زمن كان فيه يشاغب ويفتعل المشاكل، عندما كان شاباً، لكي يأتي الإعلام على ذكر إمارته.
قمة السريالية عبّر عنها في النهاية. عندما أفتى بأن «التحول التاريخي الذي تمر به أمتنا... العظيمة... يتطلب التعامل معه بفكر جديد وأساليب جديدة وإرادة حقيقية للتغيير»، عبر «إصلاح مدروس مستند إلى رؤية وفكر وإرادة». عفواً، فكر ورؤية... وإصلاح! مصطلحات لا بد اقتبسها من أحد، شخص استثنائي، مفكر عربي «أصيل». وكل ذلك من أجل ماذا؟ «طمأنة الشعوب إلى حاضرها ومستقبلها». جميل جداً. همّ أخينا على الشعوب. يقول للحكام ــ الولاة، المتحلّقين حوله على الطاولة نفسها، إنه مع شعوبهم ضدهم. يعظ عليهم الأساليب الجديدة للحكم الرشيد، تحت طائلة مجابهتهم للمصير نفسه الذي آل إليه كل من زين العابدين بن علي ومبارك ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح.
لكنه قبل أن يختم كلمته السامية، ورغم انشغاله بالملفات الاستراتيجية للأمة، وانفطار قلبه على الشعبين السوري والمصري، يأبى ألا يشمل الصغار بعطفه. تعبير عن كِبر وترفّع. لفت إلى الصومال حيث «يتابع التطورات الإيجابية بكثير من الأمل»، وإلى جزر القمر «الدولة العربية الواعدة»، ودارفور حيث «نلاحظ بكثير من الارتياح التحسن الواضح الذي يشهده الإقليم».
قبل تربعه على عرش العالم العربي أمس، قدمه نائب الرئيس العراقي خضير الخزاعي بأنه «الأمير حميد». كان يقصد طبعاً الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. لقد أخطأ مرتين: لا اسمه حميد ولا هو حميد.