يمضي سامر واكد وتوفيق شرف وأربعة آخرون من مخيم نهر البارد شهرهم الأول من دون عمل، بعد أن استغنت عن خدماتهم إدارة قسم الطوارئ بالأونروا في الشمال، والحبل على الجرار بالنسبة لعشرات آخرين من العمال والموظفين. يوم أهل البارد، ليس أفضل من الأمس، والمقبل من الأيام يخبئ ما هو أسوأ. وتيرة إعمار المخيم المدمر توشك على التوقف رغم أنها لم تبلغ منتصف الطريق بعد. فمن أصل ثماني رزم، تسلم الأهالي رزمة واحدة، والثانية قيد التسليم، والثالثة يجري العمل بها، أما الرابعة فلا تمويل إلا لإنجاز نصفها. الموظفون الباقون في أعمالهم ليسوا بأحسن حال بكثير. هم محاصرون في مكاتبهم، مكبلين بين مطرقة حاجات أبناء جلدتهم وسندان الإدارة. من الشارع العام يمكن مراقبة الموظفين المقيمين في مبنى الأونروا للتواصل الإعلامي، الواقع على خط التماس بين قسمي المخيم الجديد والقديم. المبنى أشبه بسجن، تحيط به أسلاك شائكة من كل الجهات. بوابة خارجية مغلقة بالأقفال وقت الدوام، لا تفضي إلى حرم المبنى، بل إلى باحة تسمح بالدخول إلى باحة ثانية، تفصلها عن أبواب مكاتب الموظفين بوابة مقفلة أيضاً، وتصوينة أخرى.
من خلف الأسوار والأسلاك يسألني موظف عن الغاية من قدومي، وبقدرة الفلسطيني على تدبير الحال، يدعي أنه سيحضر المفتاح ليفتح الباب، لكنه يعود بعد قليل، وباستحياء يمد يده ليعطيني وريقة عليها رقم هاتف مسؤولة الإعلام في الأونروا، ويعتذر لعدم وجود أحد في المكتب باستطاعته التحدث إلى الإعلام.
ما لم يفصح عنه الموظف شرحه لي عابر سبيل، وهو يرشدني إلى منزل سامر المفصول من عمله. القصة باختصار هي عدم قدرة الموظفين على تلبية طلبات أبناء المخيم، وخوفهم من اندفاع الأهالي لدخول مكاتب الأونروا. وعلى أي حال، الطريق بحد ذاتها صوب منزل سامر، سهّلت على عابر السبيل شرح المعاناة، فالطريق كانت عبارة عن بحيرة من المياه المبتذلة، تمتد بعرضها، لدرجة أنه عبثاً كان يحاول تدبر مسلك يجنبنا نحن الإثنين الخوض في «النجاسة»، فلم يفلح. استخدم الرجل عبارة النجاسة، لا للتعبير عن القرف فحسب، بل ليقول، ولمناسبة يوم الجمعة، إن وضوء أهل الحارة قبل توجههم للصلاة، يصبح لاغياً بعد عبورهم بحيرة النجاسة.
لا يغادر سامر واكد منزله، فهو لا يزال تحت وقع الصدمة، منذ تبليغه قراراً فجائياً بالتوقف فوراً عن عمل، مارسه بشكل متواصل منذ خمس سنوات، علماً بأن التبليغ جاءه أثناء أداء عمله ليلاً في حراسة أحد المقار التابعة للأونروا. سامر لا يعرف النوم، «وضع البيت انقلب، حتى الولاد مش عارف إيش بدي قلهم، أحس جسمي منهار، ما بيطلع مني شغل بالفاعل، وما بعرف أسرق. سالم ابني ما رحش عل المدرسة، ما سألت، عقلي بوضعي الخربان، البنك بدو مني قسط بآخر الشهر من وين بدي أجيب...». ويعرض سامر حلقات الأخذ والرد مع إدارة الأونروا التي قررت الاستغناء عن العاملين في الحراسة بعد إقفال مكتب الطوارئ في طرابلس بسبب ما اعتبرته انتهاء أزمة نهر البارد، فيقول إن الأزمة لم تنته بعد، لأن إعادة إعمار المخيم لم تكتمل، ولم تعد عائلات المخيم إلى منازلها. ثم يتساءل عن المعايير المتبعة في فصل 6 موظفين من أصل 28، غامزاً من قناة بعض الفصائل الفلسطينية، لأن «الواسطة والدعم» غيرت أكثر من مرة الأسماء المطروحة للفصل، ويعطي مثلاً على ذلك، أنه تقرر بداية فصل «فلان»، ليتبيّن أن «اسمه طرح سهواً»، فيستبدل بعلّان ليتبين أيضاً أن اسم الثاني طرح خطأ أيضاً، لينتهي الأمر بفصل أحمد عيد الذي يبدو أن لا دعم له ولا واسطة.
توفيق شرف من المفصولين الستة، يقول «ننام ونفيق على هم الولاد والدَين، عندي خمس بنات وصبيين، من وين بدي طعميهم، والكمبيالات اللي وقعّتها لمن صلحت البيت وجبت شوية فرش وغراض بعد ما راح كل شي، وشو بدي اشتغل بعد هالعمر. طيِّب وبنتي ملاك عمرها عشر سنين، وأصابعها الثلاثة انبتروا بقنبلة من أيام النزحة من المخيم، وكنت واعدها إنو رح حكّمها وردّ لها أصابعها، شو بدي اعمل».
هكذا، دمر المخيم، ثم أعيد إعمار أقل من نصفه. ومع انعدام مصادر التمويل، بدأت الأونروا بالتخفيف من العاملين، والأدهى من ذلك، يشكو أبناء المخيم استبدال العمال الفلسطينيين بسوريين، ما يحرمهم، علاوة على البطء الشديد بما تبقى من الإعمار، الكثير من فرص العمل. ولأن عودة المخيم إلى سابق عهده بوصفه سوقاً تجارياً، بات في دنيا الأحلام، ينعدم الأمل بمعالجة البطالة والفقر الشديد المنتشر في المخيم. ومما يفاقم أزمات السكن والمعيشة دخول ما يقارب 650 عائلة فلسطينية نازحة من سوريا، بحسب رئيس لجنة النازحين سليمان سلامة الذي وصف واقع حال النازحين إلى مخيمات الشمال وخصوصاً البارد بـ«ميت يتعكز على ميت»، فثمة خمس عائلات تسكن في كاراج واحد، حيث ينام الناس مداورة لضيق المكان، متحدثاً عن بدء انتشار أمراض جلدية وصدرية معدية، ومتسائلاً عن دور الجمعيات في مساعدة النازحين الفلسطينيين، مشيراً إلى أن أغلب المساعدات تأتي من سكان مخيم البارد، رغم أنهم بحد ذاتهم يحتاجون إلى من يساعدهم.
في منزل تقطنه ثلاث عائلات، يفضل النازحون العودة إلى سوريا والموت هناك على الذل الذي يقاسونه في لبنان. أبو محمد كان يعمل بالتلييس في مخيم اليرموك، لديه توأمان بعمر ستة أشهر وولد آخر، ولا يجد أي عمل في المخيم. أما شقيقه الذي يضع ساقاً اصطناعية، فكان يعيش من مردود كشك لبيع الحلوى، وخرج مع أولاده بالثياب فقط. والأدهى من ذلك أن الشقيق الثالث اختفى في أحداث اليرموك، وإعالة أسرته باتت على عاتق أخوين يحتاجان إلى من يعيلهما.
يستهجن سليمان سلامة رئيس لجنة النازحين الفسلطينيين من سوريا إلى مخيم نهر البارد فوضى الأعمال الإغاثية المتعلقة بالنازحين السوريين والفلسطينيين على حد سواء. ويتساءل إذا كان المطلوب للحصول على كل كرتونة إعاشة القيام باعتصام. لذلك تتوجه اللجنة نحو اعتصام مفتوح أمام مراكز الأونروا من أجل إقرار آلية واضحة لمعالجة وضع النازحين الفلسطينيين، ومساءلة الوكالة المكلفة بـ«غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» عن دورها بصفتها منظمة أممية. وفي السياق، همس في أوساط المخيم عن صفقات «إغاثية» يجريها بعض النافذين لمصالحهم الشخصية على حساب أغلبية المقيمين في المخيم بما في ذلك النازحين إليه مجدداً.



يدرك أبناء البارد أن الأزمات المتعاقبة التي يمرون بها لا تعود فقط إلى تقصير الأونروا أو إلى مؤامرات خارجية، كما أنهم يعلمون أن مساعدات كثيرة كانت مخصصة للمخيم بعد تدميره اختفى معظمها قبل أن تصل إلى مستحقيها، ويرون أن القوى التنظيمية الفلسطينية من فصائل ولجان شعبية، تفصح يوماً بعد آخر عن عجزها في تلبية حاجات المخيم، وفي مواجهة ما يحاك ضده، وخصوصاً بعد موجات النزوح الفلسطيني من سوريا. «مشاغبون» صفحة تضم نخبة من أبناء المخيم، يعملون بحيطة وحذر على خلفية ترشيد حركة اللجان والفصائل، ويحذرون من مخاطر «ربيع فلسطيني» يأتي على غرار الربيع العربي.