بغداد | لم يُحِط الغموض والتناقضات بمعركة من معارك حرب غزو العراق عام 2003، كما أحاط بمعركة مطار بغداد «صدام سابقاً»، رغم كثرة ما كُتب عنها، حتى صارت في نظر البعض مأثرة عسكرية بطولية تُحسب لمصلحة العسكرتارية العراقية. وفي نظر البعض الآخر، كانت مجزرة بشعة ارتكبها الغزاة ضدّ القوات العراقية باستخدام الأسلحة المحرّمة، ردّاً على مغامرة انتحارية غير محسوبة العواقب قامت بها قيادة النظام العراقي. تلاحَظ في هذه المعركة أمور عدّة منها: ندرة ما قاله الطرف الأميركي، العسكري والمدني، في توافق نادر، حول هذه المعركة، كأنّهم يعترفون ضمناً بحرمة الأسلحة المستخدمة فيها من جهة، والاختلاف الشديد الذي يبلغ درجة التناقض التام، مع ما قالته الأطراف العراقية عنها، من جهة أخرى.
بالعودة إلى أشهر الروايات العراقية عن معركة المطار تلك، المعروفة برواية العميد الركن علي أبو الفضل، التي نشرتها الصحافة العربية بعد ستة أعوام على وقوعها، فإنّ معركة أخرى سبقتها هي معركة «ذراع دجلة»، أو «الليلة السوداء» (انظر الكادر).
وتكاد هذه المعركة أن تكون نسخة مطابقة لمعركة «المطار» من حيث نتائجها، لكنها تختلف عنها من حيث تكتيكاتها؛ فإذا كانت الأولى هجوماً مدرعاً اقتحامياً سريعاً، فقد كانت معركة المطار كميناً أُعدّ بإحكام للقوات الغازية.
تتفق غالبية الروايات العراقية للمعركة على أنّها تألفت من قسمين. ربح العراقيون القسم الأول منها، وألحقوا بالأميركيين خسائر فادحة. في هذا الجزء من المعركة، حوّل العراقيون مباني المطار إلى كمين متفجر بالنيران والغازات الخانقة يصعب على من يدخله الخروج حياً منه. الخطة العراقية كانت تعتمد على السماح للقوات الأميركية بالإنزال في أرض المطار بعد معركة غير طويلة، ومن ثم الانقضاض عليها، وهو ما جرى فعلاً، ونُفذت الخطة بنجاح. المصادر العراقية تقول إن عدد قتلى الجيش الأميركي ناهز الألفي قتيل. يروي أحد كبار الضباط العراقيين أنّ الجانب العراقي استخدم مدافع هاون من عيار 82 ميليمتراً، تحدث تجويفاً أمامياً يتخلله تيار هوائي قوي أثناء الانقضاض. يقوم هذا التيار بنثر مسحوق دقيق جداً من البلاستيك الخاص بحيث يكوّن في الهواء، وعلى ارتفاعات معينة، سحباً دخانية تشبه تلك الناتجة عن غاز الأعصاب، الأمر الذي أجبر العدو على الانشغال بلبس الأقنعة والبِدل الواقية أو الاختباء في آلياته المحكمة الإغلاق المصممة للوقاية من الغازات القاتلة. وجرت العملية بسرعة، حيث بدأ الانتشار الغازي للكيروسين، وبدأت المادة البلاستيكية تقترب من الأرض أكثر فأكثر، عندها أُطلقت، على نحو مدروس ومنتظم، قذائف هاون من النوع الحارق نحو المطار، فحدثت الكارثة أو الصدمة غير التقليدية، على هيئة انفجار أو احتراق هائل شمل مساحات كبيرة من المطار. وتحولت نواتج الانفجار على الأرض إلى مادة شبه إسفلتية معيقة للحركة، الأمر الذي جعل الوضع مناسباً للمدافعين العراقيين بعد حال الشلل الذي أصاب معظم الآلة العسكرية المعادية. وقد تسبب الانفجار الهائل، الذي نتج عنه حبس حراري وضغط شديد، بوقوع خسائر كبيرة جداً وإصابات فادحة في صفوف الغزاة، عندها انقض عليهم المدافعون العراقيون وأجهزوا على مَن بقي منهم بعد التفجير الرئيسي.
كان النصر في الجزء الأول من معركة «المطار» لمصلحة العراقيين، لكنهم تركوا باقي تشكيلات العدو المتقهقرة تنسحب، وهو ما كان بمثابة فرصة ذهبية كي تعيد تنظيم صفوفها، ثم تعود بقوة، بعد التحامها مع إمدادات مناسبة وقوة دعم كافية، من أجل القيام بهجوم معاكس ضيّع جهود القوات العراقية؛ إذ دخلت الكتيبة الأميركية الثالثة الميكانيكية لدعم الكتيبة الأولى المنهارة، الأمر الذي أعاد إلى هذه القوة عافيتها وتماسكها. ولأن العراقيين لم يبق لديهم إلا فرقة النداء المدرعة كقوة ضاربة، فقد رفضت القيادة زجّها في المعركة في ظل تفوق كبير لمصلحة العدو، لأن ذلك يعني الانتحار.
وبدلاً من زجّ تلك القوة، قررت القيادة العراقية تزويد اللواءين المدرعين 26 و23 بدبابات «ت 72» الروسية من الجيل الخامس، وهو جيل متطور جداً تدرب عليه الحرس الجمهوري جيداً ولم يستخدمه من قبل. بدأت المعركة، وكانت منذ ساعاتها الأولى لمصلحة العراقيين، وحاولت الطائرات الأميركية أن تثني هذه القوة المستميتة عن مرادها، لكن دون جدوى. وكان مشهد المعركة يشير بوضوح إلى أنّ كفة النصر تميل الى العراقيين. عندها لم يكن أمام الغزاة إلا اللجوء إلى مبدأ التدمير المتبادل أو ما يعرف عند قادة «البنتاغون» بالسهم المكسور ( Broken Arrow)؛ فقد أقلعت طائرتان من نوع «MC 130H Combat Talon» تابعتين لقوات العمليات الخاصة. وتحمل كل طائرة قنبلة من نوع أم القنابل «MOAB» تزن 21000 رطل، ويبلغ طولها 9 أمتار. فقلبت هاتان القنبلتان موازين القوى، وأدتا إلى مجزرة بشعة بحق جميع المقاتلين في الميدان.
مصادر عسكرية وصفت هذه القنابل بأنها قنابل نووية، لكن من نوع جديد؛ فهي تعتمد على مادة مركبة تسمى «الباريوم» الفتاك (Superbaric)، تولد حرارة مركزية تزيد على 10000 درجة مئوية، وهي حرارة كافية لصهر أي معدن وتبخير أي كائن حي، إضافة إلى إطلاقها موجة إشعاعية عالية التركيز من «الميكروويف»، الأمر الذي يصهر الآليات بأنواعها ويفحّم من فيها.
المصدر العراقي السابق الذكر، وصف خسائر قواته في هذه المجزرة، بأنها «كارثية». ويرجح مراقبون أنها ربما كانت بالآلاف، وأنّ ما نسبته 70 في المئة من تشكيلات قوات الحرس الجمهوري المشاركة فيها قد استُشهدت أو أصيبت.
اختلفت التقويمات العسكرية لهذه المعركة؛ فالبعض عدّها مأثرة عسكرية بطولية اضطرت العدو إلى استعمال أسلحة الإبادة بعدها، فيما رأى البعض الآخر فيها نموذجاً عن التفكير المغامر والانتحاري، الذي لا علاقة له بالعلوم العسكرية، أقدمت عليها قيادة نظام دكتاتوري تقوده مجموعة من الأقارب المتعصبين لزعيمهم، وأدت إلى مجزرة كبرى يتحمل مسؤوليتها الغزاة أولاً، ومن خطط لها وقادها بهذا الشكل من الجانب المدافع ثانياً.



«ذراع دجلة» أو «الليلة السوداء»

سبقت معركة «المطار» معركة أخرى، تُعرف عراقياً بمعركة «ذراع دجلة»، فيما أطلق عليها الأميركي اسم معركة «الليلة السوداء». خلال هذه المعركة، تصدّت قوة مدرّعة عراقية تتألف من 300 دبابة متطوّرة، هي قوات اللواء المدرّع السابع والثلاثين من الحرس الجمهوري بقيادة اللواء محمد مصطفى عزيز، للقوات الغازية. وكانت هذه القوة مقطوعة عن القيادة العراقية العامة وعن قوات الإسناد القريبة منها ومن دون غطاء جوي. وحين رصدت طلائعها قيام قوات الغزو بإنزال ناجح وبدء التمركز قريباً منها، ارتجل قائدها خطة فدائية جريئة للتصدّي للقوات الغازية، ومنعها من الاستيلاء على مطار بغداد أو تأخير حدوثه.
اعتمدت خطة اللواء عزيز على الهجوم الاقتحامي بالسرعة القصوى لدباباته وإطلاق النار على العدو منها وهي في أقصى سرعتها. ونُفذت الخطة فعلاً، وألحقت خسائر فادحة بالغزاة. لكنَّ الرد المعادي كان مدمراً: انهالت القذائف الشديدة الفتك من اليورانيوم المستنفَد، فكانت تثقب أعتى الدروع والدبابات العراقية، كما يثقب السكين الملتهب قالب الزبد بعد أن تتولد عنها حرارة تصل إلى 5000 درجة مئوية، وهي حرارة تصهر وتبخر كل شيء داخل الدبابة. قدّر العراقيون عدد شهدائهم بـ1500، بينهم قائد اللواء، لكن مصادر أخرى تحدثت عن أسره من قبل العدو، وهو ما لم يتأكد حتى الآن. أما خسائر الغزاة، ففاقت 400 قتيل.