أرسل لي صديق، ساهم مرات كثيرة بالكتابة في هذه الصفحات، رسالة عبر الفايسبوك عبّر فيها عن استيائه مني. فأنا بالنسبة إليه أرى بعين واحدة ما يجري للفلسطينيين، حاصراً كتابتي في ما يجري في الداخل وفي مخيمات لبنان. وكانت خلاصة قوله أنني أرى فلسطين التي أريد.
هكذا، اتهمني بأنني لا أريد أن أرى ما جرى ويجري في مخيم اليرموك، ولم أر المجازر التي ارتكبت بحق المدنيين هناك، كما أنني لم أعلّق على قصة الرجل الذي قتله القناص وهو يحضر ربطة الخبز لعائلته في المخيم.
ولهذا الصديق أقول: بالنسبة إليّ الوجع الفلسطيني واحد، أينما كان. فنحن جسد واحد «حلّ» في بلدان عدة. الاختلاف بيني وبينك يا صديقي هو في وجهات النظر وتوصيف ما يجري في سوريا. بصراحة لا أعرف رأيك، لكنّي أخمّن. أما أنا، فأرى أن ما تعيشه سوريا، اليوم، لم يعد «حراكاً شعبياً يطالب بالحرية والديموقراطية. فنحن نشاهد حرباً أهلية موصوفة بين أبناء شعب واحد. فالحروب تظهر أسوأ ما في الإنسان، وتكشف حقيقة طبيعتنا البشرية. وبعد مشاهدة المجازر التي ارتكبت وترتكب في سوريا، أيّاً كان من يرتكبها، يمكن القول إننا أمام مشهد تخلى فيه المتصارعون عن إنسانيتهم، وباتت الغرائز هي التي تتحكم بمنطق صراعهم.
يا صديقي، كيف يمكننا أن ننام وكل هذا الدم يراق في الشام؟ كيف يمكن العالمَ أن يفاوض حول من يموتون هناك؟ ما يرتكب من مجازر ضد المدنيين السوريين والفلسطينين في سوريا يجعلك تشيح بعينيك غصباً عن هذا المشهد الفظيع.
في سوريا، أصبح الشهداء أرقاماً. كأن لا أسماء لهم ولا وجوه. يمرّ خبر وفاة 100 شخص مرور الكرام. كأن أحداً لن يفتقد هؤلاء. ببساطة، تحول المتقاتلون في سوريا الى وحوش. ولم يعد الصراع هناك طلباً الحرية، أو ليرسم علي فرزات كاريكاتيراً من دون أن يتم اعتقاله أو تكسير يديه. أصبح الصراع في سوريا صراعاً دينياً طائفياً مذهبياً عرقياً مقيتاً، وأسماء الكتائب المقاتلة أكبر دليل على ذلك. لذا لا يمكنني أن أكون مع من يرفعون «الحدّ» على الناس. أنت ابن مخيم اليرموك وتعرف المخيم أكثر مني، تعرف أسراره وما يجري فيه، ومن يؤيد من، ومن يقف ضد من. بيني وبينك مسافة، وأخباركم تصلنا. لكن تأكد أن الذهاب الى الشمس سيراً على الأقدام أهون من التأكد من صحة المعلومات الواردة من سوريا عموماً، ومن اليرموك خصوصاً. قلت إني لم أر طائرات الميغ التابعة للنظام وهي تقصف المسجد، وهل بيت الله أهم من بيوت الناس المأهولة بالمدنيين؟ آخرون من المخيم قالوا إن «المجموعات المسلحة» هي التي قصفت الجامع بالهاون! والآن؟ المفترض تصديق من؟ ولماذا، مع محبتي، أصدّقك أنت ولا أصدّقهم؟ والعكس صحيح بالمناسبة.
في غزة، من السهل تحديد العدو: الصهاينة. في الداخل الفلسطيني الذي يبعد عنا أكثر مما يبعد اليرموك، يمكن التأكد من المعلومات الواردة من هناك بسهولة. قد يمر خبر استشهاد 5 فلسطينيين. وفي الواقع يكون قد استشهد شخص أو اثنان، ومع ذلك، يمكنني نشر الخبر والتعليق عليه، لأنه من غير المستبعد من عدو شرس مثل عدونا القيام بذلك. أما في سوريا، فلا أقول إن النظام لا يقتل، أو أن الملائكة هناك هي من يتصارع. في سوريا، هناك حرب دائرة وهي حرب أصبحت بعيد اندلاع الثورة بشهور قليلة حرباً طائفية. ببساطة، لا يمكنني أن أكون في الخندق نفسه مع «أبو محمد الجولاني» قائد «جبهة النصرة». ولا يمكنني أن أكون في الخندق نفسه مع بسمة القضماني التي مدحت الإسرائيليين في الفيديو الشهير. ولا يمكنني أن أكون مع حراك يهدد حركات المقاومة، ولم يسع الى طمأنة المقاومة في لبنان، التي، شئنا أو أبينا هي الوحيدة التي حققت في السنوات الأخيرة انتصاراً ذا مغزى على إسرائيل، عدوّي الأول والأخير. لا يمكنني، يا ابن أمّي فلسطين، أن أكون مع حراك لم يعلن موقفاً ضد إسرائيل. في سوريا صراع طائفي. يموت فيه أبرياء، وهؤلاء شهداء عند ربهم.
أما مخيم اليرموك؟ فالقلب يرنو الى هناك وإلى كل مكان فيه فلسطيني مظلوم. لكننا ببساطة أخطأنا في حساباتنا هناك. وهناك طرفان قررا الوقوف مع المتصارعين: طرف مع النظام، وطرف ضده. إلى أين أوصلنا ذلك؟ إلى ما نحن عليه الآن: نستشهد في المكان والزمان الخطأ. أتأسف على الذين حملوا أسلحتهم وقتلوا، إلى أيّ طرف انتموا. أتأسف أنهم ماتوا ولم تكن أسلحتهم موجّهة ضد العدو الإسرائيلي.
وطوبى لمن استشهد وهو بعيد عن وطنه من أجل رغيف خبز لعائلته. وطوبى للمصلّين الذين استشهدوا وهم بين يدي الله. وطوبى للذين يقتلون ويستشهدون على طريق فلسطين... فلسطين فقط.