اللاذقية | أصوات الرصاص التي تسمع بين الحين والآخر، وسط مدينة اللاذقية، لا علاقة لها بالاشتباكات والمداهمات الغالبة على عدد من المدن السورية الأخرى، إذ إن الرصاص في المدينة الساحلية يُطلَق احتفالاً بتشييع شهيد قضى في المدن الساخنة، وأتى جثمانه عبر الجو مع لفيف من جثامين رفاقه ليُدفنوا، في مسقط رأسهم، وسط تشييع يكسوه خليط من الحزن والغضب والسخط أحياناً على الدولة السورية، وليبقى الرصاص وسيلة التعبير الأكثر استخداماً في حياة السوريين. الجميع يُصرّون على أنّ اللاذقية تعوم على بحر من السلاح. أمرٌ تثبته مصادرة عناصر الجيش شاحنتَين محمّلتين بالسلاح متجهتين إلى مدينة طرطوس المجاورة. ويزعم عدد من السكان أن الشاحنتين خرجتا من المرفأ وسط حديث يحتلّ أفواه أهل المدينة عن التحقيقات الجارية لمعرفة المتورطين. وعليه، فإن الحديث عن الفساد وفوضى التسلّح لا ينتهي. أمرٌ غير مستغرب، فالمدينة التي عانت طويلاً من استشراء الفوضى والفساد داخلها، تعاني ما تعانيه اليوم جرّاء الفوضى التي تعيشها البلاد بأكملها. وسيجد عدد من شبّانها العاطلين من العمل فرصة لحمل السلاح عشوائياً ومضايقة أهلها. وهو ما حاول بعض «المصلحين» الاجتماعيين حلّه في عدد من القرى بهدف إيقاف مدّ التسلّح ووقوع السلاح بأيدي «أشخاص ليسوا أهلاً له»، بدعم شخصيات بارزة في المدينة وجدت في الأزمة الحالية فرصة لبسط يدها على بعض المناطق وأهلها.
مصادرة السلاح أمرٌ يحصل يومياً في المدينة، ويجعل البعض يتساءل: متى تشتعل المدينة وسط هذه الخلايا النائمة؟ الإجابة واضحة من خلال بضع ساعات يقضيها المرء بين أهل اللاذقية. فقد افتقد عناصر المعارضة المسلّحة الحاضنة الشعبية التي احتلّوا إرادتها في مناطق أرياف إدلب وحلب ودمشق ومدن أخرى، ففي اللاذقية يقف ابن المدينة حارساً على مدينته بانتظار الاشتباه بأي شخص أو سيارة. وفي أعماق البعض، يجثم بقوة رجل أمن خاص يراقب الآخرين، في بلدٍ حكمه رجال الأمن بسلطة مطلقة وكبتوا فيه كل صوتٍ يعارض إرادتهم، ما جعل الأنظار تتطلّع إلى ما يمتلكون من قوّة بخوف، وربما، حسدٍ أحياناً.
«مصادرة سيارة مفخخة على مفرق قرية الهنّادي قبل مدخل المدينة، وقتل سائقها قبل التفجير». خبرٌ بثّ الرعب في النفوس، ولا سيّما بعد انفجار المزرعة منذ أيام وسط العاصمة دمشق. وبدأ التساؤل يطفو على السطح حول الإصرار على إقحام المدينة، التي فرغت من شبّانها، في النار التي تأكل سوريا كلها. مئات الشهداء وعوائلهم يحتفظون بمشاعر الغضب والسخط على كل شيء.
محمود، طالب في جامعة تشرين (كلية الهندسة)، يعتبر أن والده قضى نتيجة الاستهتار بحياته في إحدى المناطق العسكرية، بعدما انتظر ورفاقه إمداداتٍ لم تأتِ. ويتابع قوله: «كلمة شهيد وحدها لا تكفي. فالشهيد يعني ألا يذهب دمه هدراً. أما هُنا، فإن أهالي الشهداء يشعرون بأن أولادهم ليسوا إلا أرقاماً في المعركة الدائرة». التصريح الأخير لوزير الخارجية وليد المعلم في موسكو أرخى بظلاله على أهل المدينة، فجاهزية الدولة، ذات الدبلوماسيين المخضرمين، للحوار مع كل من يريده، بمن فيهم «من يحمل السلاح»، أحرجت دماء أبنائهم وبثّت يأساً في نفوسهم. يعلّق محمود على الأمر بكلمة واحدة مستمدّة من قصيدة أمل دنقل: «لا تصالح». عبارة ربّما تملك من الحساسية ما يكفي في ظل الصراع الدائر والدعوات المتكررة إلى الحوار. ويعتبر رامي، الطالب في كلية التجارة، أن لا تفاوض مع المسلحين، إنما من يملك التصرّف معهم هو الجيش السوري فقط، على اعتبار أن المناطق التي استولوا عليها بالقوة لن يعيدوها إلا بالقوة.
وبرأي الشاب العشريني، فإن التقسيم حاصل في النفوس، إذ لا توجد قوة تدفع ابن الساحل للذهاب إلى الداخل والأمر سيتطلب وقتاً لعودة الثقة بين الطرفين، فيما تحوي المدينة آلاف النازحين من حلب والمناطق الداخلية، ما يثبت عكس رأيه، إنما الجدل في المدينة لا ينتهي.
حكايات متناقلة على ألسنة أهل المدينة عن أبنائهم المخطوفين في المناطق المشتعلة، فأخبار أبنائهم المقطوعة تحتل أفكارهم وأحاديثهم. والقلق يسيطر على وجوههم، في ظل حصار عدد من أبنائهم داخل بعض المطارات والنقاط العسكرية في حلب وريف إدلب من قبل عناصر المعارضة المسلحة، وفي مقدمها «جبهة النصرة». تروي سماح حكاية قريبها الذي ذهب إلى تعزية عائلته باستشهاده في ريف دمشق منذ أكثر من سنة ونصف، وجرى فتح قبره غيابياً لعدم قدرة الحصول على جثته. واليوم تؤكّد سماح باسمةً أن الرجل عاد إلى أسرته سالماً من دون أي تفاصيل عن مكان تخفّيه كل هذه المدة هارباً من الأخطار التي أحاطت به مع بعض رفاقه. أخبار الشهداء، الذين تفتتح التعازي بأسمائهم من دون الحصول على جثامينهم كثيرة، وهي ترتّب صراعات نفسية إضافية يحملها أهاليهم. أما أخبار قرى الريف المحاصرة، فهي تحمل في طياتها الكثير من التذمّر من ترك الدولة للمسلّحين ينشئون إماراتهم ودويلاتهم التي يعلنون عنها عبر «اليوتيوب»، هازئين من ضعف هيبة الدولة السورية. أمرٌ أثبتت السلطة عكسه حين سيطرت في ليلة مظلمة واحدة، «خلال فترة انقطاع التيار الكهربائي ساعات متواصلة»، على عدد من المناطق، أبرزها قرية القسطل والطريق إلى كسب الذي كان مرتعاً لعمليات الخطف والقتل، في فترة كانت أبرز فواتيرها إحراق غابات الفرلّق إثر الاشتباكات العنيفة في المكان.
وحده الوقوف ساعات طويلة على الحاجز العسكري عند مدخل اللاذقية أصبح كابوس أبنائها وهمّهم اليومي خلال دخولهم من الريف لقضاء أعمالهم، إلا أنّ الخروج من مدينة الأبجدية الأولى لا يشبه الدخول. إذ يمضي المرء حاملاً في جعبته آلاماً سمعها وشكاوى لا تنتهي في الزمن السوري الصعب.