غزة | مررتُ اليوم بجانب إحدى مدارس اللاجئين «الأونروا» في منطقة الشاطئ. هذه المدارس التي درست فيها، وكانت تتميز بزي رسمي مخطط بالطول، و«أشياء» بيضاء كان علينا ارتداؤها على الرأس. دائماً كنت أتساءل: لمَ الأبيض؟ ألا يوجد لون آخر يليق بطفولتنا غيره؟ ولمَ طلاء المدرسة أزرق باهت بارد؟ تساؤلات لم أجرؤ على طرحها يوماً، أو الاعتراض على «الحلقات الإذاعية» كل صباح، نقف قرابة عشرين دقيقة لنسمعها! أكانت شيئاً مقدساً؟ أقدامنا الصغيرة كانت تعترض. لكن ما يلبث أن يردّ على ذلك معلمونا بالضرب، حتى إنني كنت لا أستطيع تخيّل أنهم كانوا أطفالاً مثلنا يوماً ما، بل ولدوا كباراً، تعجبهم الوقفة الطويلة، والضرب!توقفت لمجرد رؤية البوابات الزرقاء الخاصة بالمدارس هذه، وضحكت وأنا أتأمل مقولة دائماً ما كنت أسمعها من الكبار «الحياة مدرسة»، وأُقارن بين المدرسة هذه والحياة! حقيقة أنا لا أعرف من الأقسى؟ فالحياة تقسو بطريقة تختلف عن كل ما مررنا به في مدارس اللاجئين. لنقل بدءاً من كلمة «لاجئين»، هل هناك قسوة أكثر من هذه؟ وكنت سابقاً لا أعرف ماذا تعني، لاجئين؟ من وإلى متى؟ حتى عرفت القصة وأدركت السياسات المُبطنة للدول المانحة: منها ما يتعلق بالمصطلحات التي تُطلقها لغايات غير مباشرة، هل أرادت الأونروا زرع التفرقة بين لاجئ ومواطن؟ نعم؟ ربما لا، لكن هذا بعينه ما حدث.
هل قلت الحياة مدرسة؟ المدرسة حيث أوقفتني الناظرة لساعات على قدم ونصف لأنني أخالف الزي المدرسي؟ ولأنني لبستُ منديلاً أزرق! حاولتُ إقناعها بأنه أبيض وقد ازرقّ مع الغسيل! ففي المخيم المسحوق الذي نغسل به حقيقةً علينا غسله أولاً!
هل قلت الحياة مدرسة؟ حيث كنت أمشي ساعة، مسافة الذهاب والعودة، إلى مدارس اللاجئين هناك على البحر، كانتُ تجرُّني قدماي، فيما أجرُّ حقيبتي المليئة بكتبٍ زائدة على طاقتي، وكنت أتناسى بعضها متعمِّدة، لأخفف الحمل فيما كان هذا الأمر يعرضني لعقاب كلِّ مدرسٍ نسيت كتابه؟ وكأن الكتاب مقدسٌ بحدِّ ذاته أكثر من الدراسة!
هل قلت الحياة مدرسة؟ حيث درسنا لزمنٍ طويل تاريخ مصر بدلاً من تاريخنا؟ وفي الحياة درس التاريخ كان مفاجئاً دائماً وموجعاً، وواقعياً أكثر من كل الكتب التي درسناها!
تركتُ المدرسة منذ زمنٍ، وما زالت يدي تؤلمني، حيث ضربتني عليها المُعلِّمة يوماً لأنني رفضت قول كلمة «إسرائيل»، وصرخت في وجهها: أنتم تكذبون، لا يوجد شيء اسمه إسرائيل! كانت تظن أن عقابها لي هو بسبب تجاهلي للمقرر المدرسي!
ربما الآن بإمكاني القول إن مدارس اللاجئين أقسى ألف مرة من الحياة، ولولاها لما أمكننا أن نكون بهذا الجبروت والقوة؛ الدروس الصعبة تُعادل حياة وأكثر. ربما الحياة جامعة، لكن لن تكون أبداً مدرسة لاجئين!.