حاولت اسرائيل لسنوات طويلة أن تقدّم نفسها أمام الرأي العام الغربي، كما لو أنّها تدافع عن نفسها في مواجهة الفلسطينيين، رغم أن المقاومة من حق هذا الشعب، وأن كل ما تقوم به من مجازر وتدمير وتنكيل ليس سوى ردّ فعل على مبادرات فلسطينية، ومع أنّ مسار التطورات الميدانية والسياسية السابقة، على نحو عام، وخلال انتفاضة الأقصى على نحو خاص، أكّد ولا يزال، أنّ كل ما قامت به الدولة العبرية، كان وفق خطة ممنهجة باتجاه أهداف محدّدة، كانت تأخذ طابع ردّ الفعل في ظاهر الأمر. ومن البديهي، أن ينسحب هذا المفهوم أيضاً على الخطوات التي ستُقدم عليها اسرائيل في الأيام والشهور والسنوات المقبلة.
بعد أكثر من عقد على تاريخ بدء انتفاضة الأقصى عام 2000، كشف مستشارون مقرّبون من رئيس الوزراء السابق آرييل شارون، أنّ ما كان يُملي قراراته وخطواته منذ وصوله الى الحكم عام 2001، هو خطة عليا تتضمن السعي إلى إعادة احتلال كامل الضفة الغربية، بهدف تصفية «الإرهاب»، وأن هذه الخطة كانت معروفة للطاقم الاستشاري المقرّب، الذي كان يُعرف في حينه بـ«طاقم المزرعة».
وبالنسبة إلى التكتيك، الذي اعتمده لتنفيذ خطته، يوضح مستشارو شارون، ضمن برنامج تلفزيوني على القناة العاشرة، نقلت مقتطفات منه صحيفة «هآرتس»، أنّ رئيس الوزراء الأسبق حرص على الاستفادة من العبر التي استخلصها من حرب لبنان الأولى عام 1982، لتنفيذ خطته المشار اليها، لجهة تهيئة الأرضية عبر تجنيد الشرعية اللازمة من الداخل والخارج، الأمر الذي عنى أن التطورات في المواجهة خلال انتفاضة الأقصى، تأثرت بقدر كبير بوجود نية مسبقة ومخطط لدى شارون، نفذته استخبارات وجيش الاحتلال، بوعي أو عن غير وعي.
وفي السياق نفسه، أضافت «هآرتس» إنّ شارون لم يحدد هدفاً سياسياً استراتيجياً لاسرائيل، بل سعى الى حسم المواجهة بوسائل عسكرية فقط، في ظل غياب بديل سياسي. وبناءً عليه، كان السياق العملياتي هو العامل المقرر والمصمم الوحيد للواقع على الأرض. وضمن هذا الاطار، فقد سرَّع «الإحباط المركز» (التسمية الاسرائيلية لعمليات الاغتيال التي تستهدف نشطاء فلسطينيين)، عملية التصعيد.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، عملية الاغتيال التي نفّذتها اسرائيل، في كانون الثاني 2002، بحق أحد كوادر كتائب الأقصى رائد كرمي، التي أدّت في حينه الى إنهاء اتفاق وقف إطلاق النار الذي استمر شهراً. ولم تقتصر نتائج عملية الاغتيال على ذلك، بل أدّت أيضاً الى انضمام نشطاء «فتح» العلمانيين الى العمليات الاستشهادية. كما أنّ إلغاء التمييز بين أجهزة الأمن الفلسطينية المشاركة في ما تعده اسرائيل «إرهاباً» وغير المشاركة، غذّى أيضاً تلك الشعلة في ذلك الحين.
وعلى المستوى السياسي، كشف أحد أبرز مستشاري شارون، أوري شني، أنّ عدم وجود سياسة استراتيجية، وبفعل احتدام المواجهة العسكرية آنذاك، جعل جهود وزير الخارجية في حينه، شمعون بيريز، تشبه مقولة «فليلعب الأولاد أمامنا»، بل إنّ التقديرات الاستخبارية التي أكّدت أنّ الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كان معنياً بوقف إطلاق النار وباستئناف العملية السياسية، لم تكن ذات صلة في تحديد خطوات وقرارات شارون، إضافة الى أن الاستخبارات بدلاً من أن تقدّم صورة واقعية عن الخصم، كما تتطلب المهنية ذلك، أسهمت وحدة الأبحاث فيها، في توفير دعم استخباري لسياسة شارون من خلال الدعاية والإعلام.
ولفتت «هآرتس» الى أن منطق التصعيد وإعادة احتلال مناطق السلطة، كان يمكن أن يكون مفهوماً لو أن المسألة الفلسطينية كانت محصورة في المجال العسكري فقط، لكنها أولاً وقبل أي شيء آخر، مسألة ديموغرافية وسياسية وثقافية وأخلاقية. الأمر الذي كان يتطلب مساراً عسكرياً بموازاة مسار سياسي، وخصوصاً أنه من الواضح للجميع أن لا منفعة من أي نصر عسكري، إذا ما أدى الى إغراق اسرائيل في واقع ثنائي القومية يهدّد هويتها اليهودية والديموقراطية، فضلاً عن أنه سيؤدي الى فراغ سلطوي ستملأه بالضرورة «حماس» على حساب مؤيدي التسوية مع اسرائيل.
وكان واضحاً في حينه أنّ اهتمامات شارون لم تكن منسجمة على الإطلاق مع السياق السياسي. وبناءً عليه، فإن الانجاز العسكري لعدوان «السور الواقي»، لم يترجم الى إنجاز سياسي، وقمع «الارهاب» في نهاية الانتفاضة لم يستغل لعقد تسوية مع محمود عباس، الذي رفض العنف جذرياً وعلناً، بحسب الصحيفة.
ومن أبرز تجليات هذه الحقيقة أنّ شارون رفض مبادرة السلام العربية (آذار 2002) ، التي دعت الى إنهاء النزاع عبر حلّ متفق عليه، لقضية اللاجئين وحدود عام 1967، وبدلاً من ذلك فضَّل الانسحاب الأُحادي الجانب من قطاع غزة لاحقاً، في مقابل لا شيء، فأضعف بذلك مؤيدي التسوية برئاسة أبو مازن، وأسهم في تغيير المزاج الشعبي في اسرائيل على نحو جذري عبر استبدال الموقف الموزون بأحاسيس جماعية من الثأر والانتقام.
في مقابل رواية مستشاري شارون عن خطته المدروسة التي هدفت الى إعادة احتلال الضفة خلال انتفاضة الأقصى، رأت «هآرتس»، أنّه يمكن الافتراض أنّه لم يكن هناك خطة عليا لشارون، بل محاولة متأخرة، لعملية «إصلاح» على قاعدة استخلاص الدروس، تهدف الى تنفيذ ما لم يتحقق في عملية «الصنوبر الكبير» (حرب لبنان الأولى)، لافتةً الى أنّ الشخص الوحيد الذي شعر بهذا الأمر كان عرفات، الذي عاد وحذّر علناً جمهوره من نوايا شارون في أن ينفّذ في مناطق السلطة الفلسطينية ما لم يتمكن من تنفيذه في الساحة اللبنانية.
وأضافت «هآرتس» أنّه لم يكن لدى الاستخبارات أي معلومة عن أنّ عرفات قرّر التخلي عن المفاوضات، وأنّه خطط وبادر الى الانتفاضة، بل إنّ هذه النظرية قد جرى استبعادها في التحقيقات الداخلية في الاستخبارات العسكرية والموساد، وفي التحقيقات مع كبار مسؤولي «فتح» من قبل «الشاباك».