عندما أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون«انتهاء صلاحية» المجلس الذي تألّف في إسطنبول قبل عام، فإنّ هذا كان يعني بحثاً أميركياً عن جسم سوري معارض جديد يكون ملائماً لواشنطن، من أجل ملاقاة استحقاقات التسوية للأزمة السورية. استحقاق بدأ الطبخ المشترك الأميركي _ الروسي له منذ بداية صيف 2012 مع صدور بيان جنيف، وتبيّن لواشنطن أنّ «المجلس الوطني السوري» ليس مؤهلاً لذلك.
خلال أحد عشر يوماً محموماً، حاول مسؤول الملف السوري في وزارة الخارجية الأميركية، السفير روبرت فورد، تهيئة جسم معارض جديد من أجل ذلك، فووجه بعقبات من قبل الإخوان المسلمين الذين رأوا أنّ المسألة ستكون من أجل تجاوز هيمنتهم على المجلس، بالتزامن مع هواجس واعتراضات أبداها رياض الترك نتيجة إدراكه المسبق أن هذا الجسم الجديد سيكون من أجل «تسوية سورية» وملاقاة استحقاقاتها. بسبب هذا وذاك، أتت تركيبة «الائتلاف الوطني السوري» مبنية على صيغة تقول إنّه تشكّل بناءً على اتفاق «المجلس الوطني السوري وباقي أطراف المعارضة الحاضرة» في الاجتماع التأسيسي في الدوحة، حيث كان فيه للمجلس رسمياً ثلث مقاعد الجسم الجديد، وفعلياً عبر غطاء المستقلين أكثر من النصف. وأتت تلك العبارة التي تقول بـ«عدم الدخول في حوار أو مفاوضات مع النظام القائم»، وفقاً لنص الوثيقة التأسيسية للائتلاف.
وفي مقابلة مع صحيفة «القدس العربي» يوم 7 كانون الأول الماضي، أفصح الترك عن آرائه تجاه هذا الجسم الجديد، والذي أصبح أحد أركانه، بأنّه لم يكن «متحمساً له» ما دام «سيشكل واجهة سياسية بديلة من المجلس الوطني الذي يراد إسدال الستار عليه وفقاً لرغبة الأميركيين». ووصف «الائتلاف» بأنّه «أسقط بمظلة دولية» من أجل «جرّ بعض المعارضين المدجنين إلى تسوية مع النظام أو بعض أطرافه» عبر إرادة أميركية _ روسية لـ«إنهاك الطرفين لإيصالهما إلى حلّ على الطريقة اللبنانية: لا غالب ولا مغلوب».
يبدو أنّ الترك قد اختار طريق إفشال هذا الخيار الأميركي _ الروسي من داخل «الائتلاف»، حيث صرح في تلك المقابلة بأن «المسألة الكبرى اليوم ليست في ما تسعى إليه بعض الدول الكبرى، بل في ما يجري على أرض المعركة داخل سوريا». وراهن على المعارضة المسلحة من أجل «إسقاط النظام مهما غلا الثمن»، ملتقياً في ذلك مع القائد الفعلي لـ«الإخوان» فاروق طيفور، الذي رفض اقتراحاً قدمه الدكتور ناصر القدوة، نائب كوفي أنان، في مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية (2_3 تموز 2012) بالقبول ببيان جنيف، قبل أن يرفض، أيضاً، ما وافقت عليه غالبية المؤتمرين في القاهرة، بتشجيع من روبرت فورد، بتشكيل «لجنة متابعة» تكون هي القيادة الائتلافية للمعارضة، وتتألف من ممثلين عن «المجلس» و«هيئة التنسيق» و«المجلس الكردي» و«المنبر الديموقراطي»، وهي الأعمدة الأربعة للمعارضة السورية.
في مؤتمر القاهرة، صرّح طيفور بـ«أننا سنأخذ الأمر بأيدينا»، بعد اعترافه بفشل استراتيجية «المجلس» الرئيسية منذ تأسيسه في استجلاب التدخل العسكري الأجنبي على غرار السيناريوين العراقي والليبي. كان هذا الكلام، وهو الآتي من تلميذ الشيخ مروان حديد مؤسس تنظيم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين»، الذي أشعل الأحداث السورية عبر مجزرة مدرسة المدفعية بحلب يوم 16حزيران 1979، ثمّ كان قائداً مع رياض الشقفة ومهندس ثالث هو عمر جواد لـ«الانتفاضة الإخوانية المسلحة» في حماة يوم 2 شباط 1982، استباقاً لحل عسكري جرت محاولة تطبيقه من قبل «المجلس»، ومن معه من المعارضة المسلحة، في حلب ودير الزور ودمشق في الأيام العشرة الأخيرة من تموز 2012، إما لتجريب حسم الأمور عسكرياً ضد النظام أو لإفشال التسوية التي وضحت معالمها في جنيف يوم 30 حزيران، والتي على الأرجح كان يريد نبيل العربي، من خلال توقيته لمؤتمر المعارضة بعد يومين من جنيف، ملاقاة ما اتفق عليه الأميركيون والروس هناك.
نجح فاروق طيفور ورياض الترك في إفشال انتخاب المرشح الأميركي لرئاسة «الائتلاف»، أي الصناعي رياض سيف الذي كان ينسّق مع روبرت فورد لأشهر من أجل طبخة «الائتلاف»، وقبلا كحلّ وسط في ربع الساعة الأخير باختيار شخص بدون خبرة سياسية، هو الشيخ أحمد معاذ الخطيب. ومع بوادر نضوج الطبخة الأميركية _ الروسية، في دبلن (6 كانون الأول) وجنيف (9 كانون الأول _ 11كانون الثاني)، طرح الخطيب قنبلة سياسية بالنسبة إلى أجواء «الائتلاف» من خلال «مبادرة شخصية» تقول بقبول «الحوار مع النظام» وفي تناقض مع الوثيقة التأسيسية لـ«الائتلاف»، مبرراً ذلك بأن «هناك دولاً تعد ولا تفي، وهناك من يقول للسوريين اقتحموا... ثم يتركهم في وسط المعركة»، في إشارة منه إلى إغلاق صنابير الدعم المالي والعسكري دولياً وإقليمياً عن الائتلاف والمعارضة المسلحة، خلال الفترة التي أعقبت اجتماع دبلن بين كلينتون ولافروف.
خلال أيام ظهر دعم واشنطن لمبادرة الخطيب، ثمّ انفتاح البابين الروسي والإيراني أمامه. أيضاً، وعبر التجاذبات والانقسامات في وسط «الائتلاف»، أمام المبادرة وفي مواجهتها أو معها، وضح أن رياض سيف وصناعيين وتجاراً دمشقيين معارضين في الخارج شكلوا الداعم الرئيسي لها بالتضافر مع جسم إخواني دمشقي يعود إلى جناح عصام العطار في الإخوان: «الطلائع الإسلامية»، الذي اندمج في الشهر الأخير من عام1980مع «الطليعة المقاتلة» و«التنظيم العام للإخوان المسلمين». وأيضاً حظيت المبادرة بدعم من علي البيانوني، الذي لم ينسَ، وعصام العطار، في موقفهما هذا ما قادت إليه مغامرات تلاميذ الشيخ مروان حديد في حزيران 1979 وشباط 1982وما بينهما، والحصاد الفاشل المر الذي دفع السوريون ثمنه عشرات آلاف القتلى في مواجهات بين السلطة والمعارضة المسلحة آنذاك. وهم ربما عندما يقفان وراء الشيخ الخطيب يعبّران عن وعي لذلك الدرس، وأيضاً عن وعي أن «الإرادة المحلية» لا تستطيع عند المعارضة أن تقف في وجه «الإرادة الدولية» التي من الواضح أنها تتجه للاتفاق على تسوية للأزمة السورية وفقاً لبيان جنيف. وهما يعرفان أن التسوية تقام بين من «تلطّخت أيديهم بالدماء»، مثلما جرت المحاولات لذلك بعد «حماة 1982» في ألمانيا في شهر كانون أول عام 1984 بين السلطة، ممثلة في الاستخبارات العسكرية عبر العميد حسن خليل والعقيد هشام اختيار، والقائم بأعمال المراقب العام للجماعة الشيخ منير الغضبان، ثم تكرّرت في عام 1987 بين علي البيانوني والعماد علي دوبا. هذا إذا لم تجر الإشارة إلى مفاوضات السلطة والإخوان بين خريف 1979 وشتاء 1980 عبر الوسيط أمين يكن، بعدما كانت قد جرت الكثير من الدماء بين حادثة المدفعية واختيار السلطة للحل الأمني العسكري منذ النصف الثاني لشهر آذار1980.
هنا، لم تكن مبادرة الخطيب على ما يبدو مبادرة بمعنى الكلمة بقدر ما أنها اختبار لحرارة ونوعية مياه «الائتلاف»، من أجل تلمس قدرته على ملاقاة غيوم التسوية الأميركية _ الروسية. في يوم 14 شباط 2013، وفي اجتماع الهيئة السياسية لـ«الائتلاف» في القاهرة، استطاعت مبادرة الخطيب أن تنقل هذا الجسم السياسي السوري المعارض من عبارة «يلتزم الائتلاف بعدم الدخول بأي حوار أو مفاوضات مع النظام» في 11 تشرين الثاني2012 إلى ضفة جديدة يقبل بها بـ«حل سياسي» في إطار «عملية سياسية» مع النظام، ولو مع بقاء اشتراطات ومطالبات من قبله بإقصاءات تخص من يمثلون النظام.
يأتي مأزق «الائتلاف» من أسطر قليلة تفصل عبارتي «الحل السياسي» و«العملية السياسية»، في ذلك البيان الصادر في القاهرة عن عبارة واضح أنها حشرت حشراً تقول إنّ: «باب الحل السياسي لن يفتح إلا عبر تغيير موازين القوى على الأرض». تتجاور عقليتان هما في حالة تضاد داخل جسم سياسي واحد، الأولى تنطلق من أن الحل السياسي يأتي نتيجة وحصيلة استعصاء لا يسمح بكسر التوازن على الأرض، الذي هو بناء بثلاثة طوابق: محلي _ إقليمي _ دولي. والثانية كانت ولا تزال ترفض الحل السياسي نتيجة اقتناعها بإمكانية كسر التوازنات للوصول إلى «تغيير موازين القوى على الأرض»، وهي تمارس المناورة لما قبلت بـ«حل سياسي» و«عملية سياسية» مع قوى «مقبولة» من النظام، فيما هي في الحقيقة التي صعّدت الأمور عسكرياً في الجنوب والشمال في شهر شباط 2013 لتخريب الطريق أمام مبادرة الشيخ الخطيب.



«انقلاب حموي» على البيانوني

يشعر المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، علي صدر الدين البيانوني (الصورة)، بمرارة الانقلاب الذي قام به الحمويون في مجلس شورى «الإخوان» في آب عام 2010 ضد مرشحه زهير سالم الذي قدمه عند انتهاء ولايته كمراقب عام للجماعة في سوريا. وأدّت الانتخابات، في النهاية، إلى سيطرة الحمويين على منصب المراقب العام (رياض الشقفة)، ونائب المراقب العام (فاروق طيفور)، ورئيس مجلس الشورى (محمد حاتم الطبشي).
والاثنان الأوّلان من تلاميذ الشيخ مروان حديد، والثالث من الجناح المتشدّد في «التنظيم العام» الذي كان في السبعينيات والثمانينيات بزعامة حموي آخر هو الشيخ سعيد حوا.