ما يجري في الأردن منذ أشهر يتضح مع الأيام أنه ليس تفصيلاً عابراً. هذا التناقض الذي وجد الحكم الأردني نفسه فيه، أدى إلى زلزلة الصفائح التكتونية التي يقوم عليها. أصبح الحليف الاستراتيجي الذي يحفظ البقاء هو نفسه العدو الاستراتيجي الذي يتهدد الوجود. بات الحلف الذي يؤمن شبكة الأمان عبئاً، والالتزام بمقتضياته يتهدد النظام والكيان. كان لا بد من إعادة تموضع، ضمن الهامش المتاح، تقي المملكة أهوال الاشتباك الإقليمي.
الموقف الحاسم القاضي بعدم خوض معركة إسقاط النظام السوري، برغم الضغوط كلها، كان بحد ذاته مؤشر بالغ الدلالة، تلاه تقارب مع العراق تُرجم مليارات موعودة من الدولارات، وحراك على الخط مع طهران وُئد في مهده الذي لم يتجاوز بعض التصريحات الإعلامية، قبل أن يختتم بالقمة الأخيرة التي جمعت الملك عبدالله بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبما أنه ليس لدى الأردن من نفط يهديه ولا مال، فـ«ليسعد الأمن ما لم يسعد الحال»، وذلك في ظل استبعاد أردني لأي حرب إقليمية، وكذلك لأي تسوية «يراها صعبة». هاجسه أمران: المشروع «الإخواني» المسمى «الربيع العربي»، و«المجموعات الإسلامية المسلحة» التي يراها الخطر الأكبر الذي يتهدد الأردن والمنطقة.

التفيّؤ في حضن الدب

تقول مصادر سياسية أردنية وثيقة الصلة بالقصر الملكي إن لقاء عبدالله _ بوتين قبل أيام كان مفصلياً في تقرير كيفية التموضع الجيواستراتيجي للأردن في المرحلة المقبلة. وتضيف أن الملك حصل من الروس، في مقابل هذا «التحول الذي يعيش الأردن مخاضه منذ أشهر»، على مجموعة من المنافع، تبدأ بـ«ضمان عدم تطوير حل فلسطيني على حساب المملكة، وضمان أمن خط أنابيب النفط العراقي، ولا ينتهي بدعم اقتصادي للأردن عبر تطوير التجارة البينية، وإعطاء الرخصة والتكنولوجيا الضروريتين للأردن للبدء بتصنيع صواريخ من طراز كورنيت، تعرف في الأردن باسم هاشم، بدأ العمل على خط إنتاجها الأسبوع الماضي». أما المقابل، فخدمات أمنية تشكل الوظيفة الرئيسة للأردن الذي لا يجيد سواها. وهذا ما دفع البعض إلى القول إن الشخصية الأهم في الوفد الأردني إلى روسيا، بعد الملك، كان مدير الاستخبارات فيصل الشوبكي. وكان بوتين قد قام بزيارة تاريخية للأردن في ٢٦ حزيران الماضي، حيث افتتح بيت الضيافة الروسي في المنطقة التي تعرف باسم «المغطس»، التي يروى أن يوحنا المعمدان قد عمّد السيد المسيح فيها، بتكلفة ٤٠ مليون دولار، على أرض تقدمة من الملك.


لقاء قطري إسرائيلي أميركي

وتقول مصادر وثيقة الاطلاع أن زيارة بوتين للأردن جاءت في أوج الضغوط على عمان لدخول المستنقع السوري. وتشير، على سبيل المثال، إلى أنه بعد نحو شهر على هذه الزيارة، أي في أواخر تموز الماضي، عقد اجتماع أمني في الأردن، ضم خبراء عسكريين أميركيين ومسؤولين قطريين وآخرين من الحكومة الإسرائيلية «للبحث في النتائج التي توصل إليها الخبراء الأميركيون بعد دراستهم واقع المنطقة الحدودية الأردنية _ السورية». وأضافت أن توصية هؤلاء الخبراء لإدارة باراك أوباما كانت «البدء بتمويل مشروع إقامة معسكرات خاصة شمالي مدينة اربد داخل الأراضي الأردنية لتدريب المقاتلين الذين سيشاركون في المرحلة المقبلة من الأعمال العسكرية لإسقاط نظام (الرئيس السوري بشار) الأسد بشكل جيد وآمن، ريثما يتم إعدادهم للتعامل مع الأسلحة الكيميائية السورية وتدريبهم على السيطرة عليها وحماية مستودعاتها وأماكن توزعها التي تم تحديدها من قبل الخبراء الأميركيين والإسرائيليين».
وتكشف المصادر نفسها عن أن «القطريين عرضوا على المسؤولين الأميركيين أن تقوم دولة قطر بتمويل إنشاء هذه المعسكرات وتقديم كل أشكال الدعم المالي واللوجستي اللازم لاستقدام المقاتلين من الدول العربية والإسلامية، بعد موافقة الجانب الإسرائيلي الذي نجح الجانب القطري في إقناعه بتقديم المعلومات والدعم الاستخباري لإنجاح هذا المشروع».
وكان وزير الدفاع الأميركي، ليون بانيتا، قد أكد في تشرين الأول الماضي معلومات تسربت أواخر عام ٢٠١١ عن انتشار عشرات الجنود الأميركيين على الحدود الأردنية _ السورية لزيادة الضغط على الأسد. وقال بانيتا إن «هذه الوحدات مهمتها المساعدة في بناء مقر في الأردن، ومساعدة اللاجئين السوريين والقوات المسلحة الأردنية لمواجهة أي أخطار تتعلق بالأسلحة الكيميائية السورية».
وكانت العلاقات الأردنية _ السورية والأردنية _ العراقية قد شهدت تحسناً ملحوظاً خلال الأشهر القليلة الماضية. وتجلى ذلك في أكثر من محطة، لعل أبرزها زيارة رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، لعمان أواخر كانون الثاني الماضي، وفي الموقف الأردني من الأزمة السورية، والذي تم التعبير عنه بضبط الحدود المشتركة بين البلدين بشكل محكم. ومع ذلك، فإن الأردنيين لم يبرموا الصفقة إلا مع الروس، علماً بأن استعادة دفء العلاقة مع بغداد أثمرت اتفاقاً على مدّ أنابيب نفط إلى ميناء العقبة عبر الأراضي الأردنية، تتقاضى عمّان نحو ثلاثة مليارات دولار سنوياً رسوماً عليه، فضلاً عن نحو مليون برميل من النفط العراقي بأسعار تفضيلية (أي أقل بـ٢٠ دولاراً من سعر السوق، مع توفير تكلفة النقل). ويوضح دبلوماسي عربي وثيق الصلة بأضلع الحكم الثلاثة في الأردن، القصر والجيش والاستخبارات، أن عمَان استشفت، على ما يبدو، أن هناك «اتجاهاً نحو نوع من التفاهم الأميركي _ الروسي المعقد على تنظيم وضع المنطقة»، بعدما لمست «نزعة أميركية إلى انسحاب، مخلفة فراغاً لا شك ستملأه موسكو». وعليه، رأت عمّان أن تفاهماً أردنياً روسياً يمكنه أن يجنّب المملكة خضّات الحراك الإقليمي، بما يحفظ النظام وكينونة الدولة.


لا حرب ولا تسوية

ويضيف الدبلوماسي العربي أن دوائر التقدير الأمنية في الأردن تستبعد حرباً في المنطقة، وفي الوقت نفسه ترى «التسوية صعبة». تعتقد أن الخطر المقبل سيكون أمنياً: «استخدام المجموعات الإرهابية المسلحة. هذه اللعبة الرئيسية في المنطقة في المرحلة المقبلة». أما الخطر الثاني على المملكة، فتراه في المشروع «الإخواني» المدعوم من قطر.
من هنا، انطلقت مخاوف الجيش والاستخبارات التي أجبرت القصر على عدم الرضوخ للضغوط الأميركية وللابتزاز المالي السعودي والتهديد القطري بالشارع، ورفض فتح الحدود الأردنية للمجموعات المقاتلة ضد نظام الرئيس بشار الأسد. وقتها كان الموقف الأردني بما معناه «نتدخل في سوريا في حالة واحدة، وهي تدفق اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في سوريا بكثافة إلى المملكة». فالمؤسستان العسكرية والأمنية تنظران، منذ اليوم الأول، إلى المجموعات المسلحة في سوريا على أنها «كلها من طراز واحد، إرهابية ومتشابكة، ولا بد من التصدي لها تحت عنوان أن حماية عمّان من الإرهابيين تبدأ في حلب». ومن هنا أيضاً كان القرار، في المرحلة الأولى، إقفال الحدود بشكل محكم في الاتجاهين، وصولاً اليوم إلى «عمل أمني أردني في سوريا لمصلحة نظام الأسد لا ضده». ويلفت الدبلوماسي السالف الذكر إلى حال السخرية في هاتين المؤسستين من المستوى الدبلوماسي الأردني، «وخاصة تبنّي رياض حجاب. تعتبران أن المعارضة السورية كلها عبارة عن عصابات ومنافقين».


هواجس عراقية

مع ظهور معلم الارتباك على النظام الأردني، واستشف المحيط ملامح إعادة تموضع كانت تكلفته وقف الدعم المالي الخليجي للأردن والذي انعكس أزمة اقتصادية خانقة في الأردن تفجرت اضطرابات في الشارع، وجدت بغداد، ومن خلفها، الفرصة سانحة، وقررت التدخل تحت عنوان تحصين الموقف الأردني، فكانت زيارة المالكي وما رافقها من تفاهمات.
ومع ذلك، فإن الأروقة المعنية بصناعة القرار في الأردن، وإن كانت مؤمنة بإعادة العلاقة مع العراق إلى المستوى الذي كانت عليه أيام الرئيس الراحل صدام حسين، إلا أن «لديها الكثير من الهواجس حول ما إذا كان النظام العراقي متماسكاً ولديه ما يكفي من مقومات الاستمرارية والاستقلال عن إيران». ويسود الاعتقاد لديها بأن «الوضع الحالي في العراق لا يؤدي إلى الاستقرار، وأنه على الرغم من أن معظم ما يجري تعود أسبابه إلى التدخلات السعودية القطرية التركية المفضوحة في هذا البلد، لا يمكن إغفال وجود غبن عظيم لحق بشريحة وازنة من السكان، لا بد من إنصافها، وإعادتها إلى الوطن واحتوائها من قبل النظام»، في إشارة إلى سنّة العراق، وخاصة البعثيين منهم.


إيران: صعبة علينا

أما بالنسبة إلى إيران، فينقل المصدر الدبلوماسي عن مرجع أمني أردني رفيع المستوى قوله «صعبة علينا». ويوضح المصدر أن الأردن «وإن كان يعيد تموضعه، إلا أنه يفعل ذلك ضمن هامش معين. هناك حدود لا يستطيع تجاوزها، وإيران تقع خارج هذه الحدود. العلاقة معها تأخذ الأردن إلى مكان آخر. تخرجه من الهامش المتاح»، مشيراً إلى أن الأمر نفسه «ينطبق على الوضع مع لبنان، حيث تسعى عمّان إلى فتح علاقات مع (الرئيس) نبيه بري، وليس مع حزب الله». يضاف إلى ذلك أن العلاقة مع إيران صعب إمرارها في الأردن «حيث الإسلاميون، بمن فيهم المفتون، يتبنّون موقفاً عدائياً تحريضياً ضد إيران، ولعل أبرز دلالاته فتوى المرشد العام للإخوان المسلمين في الأردن همام سعيد بتحريم استخدام البنزين الإيراني، فضلاً عن البعثيين الذين يقفون مع الإسلاميين في جبهة واحدة ضد طهران». يبقى أن «الحكم في الأردن لا يعرف إيران ولا يثق بها. يعتبرها معادية للنظام الأردني ومنحازة إلى الفلسطينيين».


السعودية: حيرة وارتباك

عند الحديث عن السعودية، تظهر الحيرة والارتباك على الدوائر الأردنية التي تبدو «عاجزة عن التفاهم مع الرياض بسبب عدم وجود مركز قرار موحد» في هذه الأخيرة. «لا مرجع سعودياً يمكن الرجوع إليه ولا استراتيجية واضحة. تخبّط في كل شيء». في المقابل، فإن العلاقة مع الدول الخليجية الأخرى «جيدة»، خاصة الكويت وسلطنة عمان والإمارات «التي حسمت أمرها بالوقوف ضد المشروع الإخواني، بل المشروع الإسلامي في المنطقة بكل أشكاله». كل ما سبق في كفة، والموقف العدائي الأردني من قطر في كفة أخرى. تعتبرها الدوائر الأمنية في المملكة «دولة معادية للأردن، تروّج للكونفدرالية والوطن البديل، وتنفق أموالاً طائلة في البلد لتحقيق هذه الغاية. في النهاية مشروعها هو المشروع الإخواني الذي لا يمكن أن يقوم في الأردن إلا على أنقاض الحكم القائم». وعلى ذمة الراوي، «العلاقة مع إسرائيل فاترة هذه الفترة، وهي مع (رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين) نتنياهو عدائية. لا تستغرب إن قلت لك إن الملك والمستوى السياسي في الأردن يحتقران نتنياهو و(وزير خارجيته أفيغدور) ليبرمان».



الحليف الاستراتيجي هو العدو الاستراتيجي

لعل المعضلة الأساس، التي فيها قدر كبير من السخرية، أن الدوائر المعنية بصناعة القرار في الأردن باتت مقتنعة بأن «حليفها الاستراتيجي بات نفسه عدوّها الاستراتيجي»، والكلام هنا لا شك يدور عن الولايات المتحدة الأميركية.
الشق الأول من المعادلة ليس بحاجة إلى شرح أو توضيح، بدليل عقود الوئام التي ميّزت علاقة الطرفين. ما استجدّ هو أن كبار رجال الدولة في الأردن أدركوا أن الولايات المتحدة وصلت إلى اقتناع بأن لا حل للقضية الفلسطينية من دون «حماس»، ومن دون دعم «الإخوان المسلمين». وبما أن تلك القضية تعتبر مفتاح الخلاص بالنسبة إلى العم سام المستعد لأن يبذل في سبيله الغالي والنفيس كرمى لعيون الكيان العبري. وبما أن المشروع الإخواني نقيض وجودي للنظام الأردني، فإن عمّان وجدت نفسها أخيراً في موقع بات فيه حليفها الاستراتيجي حليفاً لعدوّها الوجودي (أي الإخوان)، وبالتالي عدواً استراتيجياً. وحلها إن كنت قادراً على حلها!